وثقت قادسيات الصنم

د. لميس كاظم

lamiskadhum@hotmail.com

 

 دخل يوم  19.10.2005 الى مجلدات تأريخ العراق السياسي ليأرشف أول محاكمة أنسانية، عادلة، لوحوش سياسين أستولوا على زمام السلطة بالقوة لمرتين وبدون مرجعية دستورية وحولوا العراق الى جبال من الجماجم التي دفنت تحت التراب وشقوا أنهار من الدماء بجسد المواطن العراقي ليشبعوا شبقهم السياسي الكاره للحرية والمدنية المتحضرة. تلك الزمر المجردة من الأنسانية إستباحت شرف الوطن وحولت البلد الزاهي بالحضارة والثقافة والمدنية الى بلد خرب وحضارة مسروقة وتاريخ مليئ بالدمار والماسي وأذلو المواطن الشريف فسلبوا حقوقه المدنية والسياسية والدستورية.

 هذا اليوم الذي يدخل النظام الصنمي، وكل أوثانه التي سقطت، التأريخ العراقي من مزبلته السقيمة. هذا اليوم الذي أعادت فتح ملفات الصنم الأجرامية بحق شعبه ووطنه وشعوب البلدان المجاورة. أنه يوم تأريخي سيفتح على تلك الطغمة البالية أبواب جهنم الحمراء التي سيكتون من نارها وستحولهم الى رماد أسود تبقى أثاره موجعة في ضمير كل عراقي شريف.

 دخل الطاغية الى المحكمة حاملا معه تأريخ نصف قرن من الرعب وديمقراطية الموت والولاء المطلق. حمل الى المحكمة كتابا زاخر بالجرائم التي يندى لها الجبين وتقشعر منه البدن. دخل الطاغية الى قاعة المحكمة، متخاذلا، مرعوبا، ليستمع لأول مرة، الى واحدة من جرائمه الصغيرة، التي أقترفها علنا وبدون حياء، لمجرد أن أطلق مجموعة من الشباب الرصاص في الهواء من بساتينهم أثناء مرور موكبه من الشارع العام. كانت نتيجة تلك الأطلاقات النارية، التي لم يتجاوز عددها 15 طلقة، أن يعدم 148 مواطن بريئ بدون محاكمة أو أستجواب أو دستور ونفي حوالي 399 مواطن من الأطفال والنساء والشيوخ الى صحراء السماوة القاحلة، ليعذبوا هناك لأربعة سنوات، ولم يكتفِ عند هذا الحد بل دمرت الجرافات كل حقولهم وصودرت أراضيهم وحولت الى ممتلكات تابعة لوزارة الزراعة وبيعت بيوتهم بأبخس الأثمان. كانت جريمة الدجيل موثقة بالصوت والصورة والأدلة الدامغة على أستهتار الحاكم الجاحد بحق شعبه. لكن ذلك كله لم يثن عزم الصنم ولم يقلل من حماقاته في حقه للدفاع عن نفسه.

 دخل صدام الى المحكمة، حاملا كتابا ليدلل على أيمانه وتبحجه ببرستيج صالونات الثقافة الأدبية وليعكس للناس ورعه المزدوج بين الأيمان والموت. كانت عقدت طفولته هي الأخلاق وكبرت في شبابه وتطورت الى عُقد أخر نتيجة فشله العلمي والثفاقي  اللذين سببا له كابوسا مرعبا ارقه طوال عمره. فقد هرب صدام من العراق بعد محاولة أغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959، الى القاهرة. كان عمرة أنذاك، 22 سنة لكنه لم يكمل الخامس ثانوي. حاول أن يكمل دراسته الثانوية في حي الزقازيق بالقاهرة أثناء تواجده كلاجئ سياسي لكنه فشل للمرة الثانية. عاد العراق راكبا القطار نفسه الذي وصله الى سدة الحكم مرتين لكنه في هذه المرة قُذف من نفس القطار، ليس نحو سدة الحكم كما عوده، وإنما الى حجيم الحكم الديمقراطي الذي سيوثق كل جرائمه المناهضة للأنسانية بمحاكمة عراقية ديمقراطية عادلة تقضي به الى القصاص العادل.

كان همه في كلتا الحالتين هو السيطرة على الحكم حتى لو شيد قصوره الرئاسية من جماجم العراقيين. وبعد أن أشبع رغبه القيادية، ألتفت ليشبع شبقه الأكاديمي الذي لم يفلح بتحقيقه بالطرق المدنية المتعارف عليها. أدعى أنه كان طالبا في كلية الحقوق في جامعة عين شمس، ومن يجرء أنذاك، أن يقول له أنك تكذب يا سيادة السيد النائب، وأنك لم تدخل الى الحياة الجامعية يوما ولم تعرف المدنية في حياتك، بل كّرم على أحسن مايرام وحصل على أعلى الدرجات العلمية  العراقية بشكل قسري. لم يكتفِ بالمناصب الأكاديمية بل أراد ان يشبع شبقه العسكري. فقد قلد نفسه أنواط من أوسمة الخبيبة والعار وتقلد أعلى الرتب العسكرية وصولا الى رئيس الجيش العراقي والقائد العام  للقوات المسلحة ورئيس الحرس الجمهوري وغيرهما من الأجهزة الأمنية القاتلة. أنه حاز على أعلى الرتب العسكرية والأمنية وهو لم يخدم يوما في الجيش العراقي ولم يمسك السلاح مجندا أو متطوعا لخدمة الوطن إنما مسك السلاح كصائع، بلطجي، شقاوة، وكرئيس لجهاز حنين الأمني للأغتيالات. كان يختال معارضيه ويقتل كل من يقف حجر أمام مستقبله السياسي. هذه هي عقدة الجاهل، القائد، المتهور، المتصابي، الذي أبتلى به الشعب العراقي. كان يفهم في كل الأمور وأكثر ما يشمئز منهم هم العلماء والمبدعين والمثقفين.

 أستحضرتني طريفة وأنا اكتب المقالة. كان الصنم يوم ذاك يقود مناقشات لندوات إنخفاض الأنتاجية في منتصف السبعينات من القرن المنصرم. دخل في مجادله مع أحد المهندسين في معمل الأسكندرية وبعد المناقشة قال الصنم * شوف أني أشكد أفتهم أكثر منك*. لم تشبعه الشهادات العلمية التي حصل عليها زيفا وإنما أراد أن ينتزع الموسوعة العلمية من عقول العراقيين ويجردهم من إبداعاتهم وهذا ما لم يفلح به. كان تدني الدرجة العلمية وقلة الثقافة المدنية والأخلاقية سبب له الكثير من الأمراض النفسيه التي أستوطنت ذاكرته المريضة وأنعشت عقدة الأنا بقوة وعظمة الشخصية التي يصاب بها أغلب القادة الجهلة. لكن لم يصادف التاريخ قائدا ساديا يقتل مليونين من أبناء شعبه.

 أكثر ما أبهر الصنم هو حال دخوله الى قاعة المحمكة مكبلا بالسلاسل، ذليلا، مستهترا بالقانون الديمقراطي الجديد، الذي أعطى الحق لمجرم سفاك، سفاح مثله، في الدفاع عن نفسه. لم يستوعب أنه يحاكم بقانون سُن من قبل الأغلبية ومحاكمته جائت بطلب من الأغلبية وأن العراق يحكمه قانون ويسير بقرار جماعي. حاول أن يبرز ثقافته العقيمة المبنية على المحاججة الباطلة عندما رفض أن يذكر أسمه وهويته محاولا أن يشكك بشرعية المحكمة بأعتبارها بنيت على باطل. ولم يستحِ من نفسه بهذا الأدعاء وهو يعرف أنه نُصب حاكما على رقاب العراقيين بدون شرعية. كان رفضه للإدلاء بأسمه ثلاث مرات أمام القاضي، هو جزء من أخلاقه الغير متحضرة والتي بعيدة كل البعد عن الوعي المدني. أراد أن يجر المحكمة الى مهاترات ومحاججات باطلة كونه * يرفض الأعتراف بالمحكمة الشرعية المنتخبة، ويحتفض بحقه الدستوري كرئيس للعراق، لكنه يحترم القاضي وزملائه* لقد أوقع نفسه في عدة مطبات  دستورية وأثبت أنه لايمد بأي صلة بكلية القانون التي أهدته الشهادات العليا. نسف أول بديهيات المحامي البسيط بأعتبار أن المتهم يتوجب عليه أن يدلي بأسمة أمام القاضي ولايجوز أخذ أسمه من سجل التحقيق. لكنه عاد ونقض رفضه حالما أجاب على الكثير من التساؤلات التي وجهها اليه القاضي رزكار محمد أمين أثناء الجلسة.

يعتبر الصنم أنه يمتلك الحق الدستوري كرئيس جمهورية. لكن غاب عن ذهنه أي دستور ثابت أعتمد عليه ومن شرع هذا الدستور ومن أنتخبه. فهو يبيح لنفسه الحق الدستوري بأن يخطف السلطة بالقوة مرتين ويصدر القوانين بنفسه وينصب نفسه، بجرة قلمه الأحمر، معتبراً ذلك هذا هو الدستور الطارئ الشرعي. بالوقت الذي يرفض أن يحاكم بمحكمة أستمدت شرعيتها من 58% من أصوات الشعب العراقي.

 نادى الحاجب معلنا أبتداء الجلسة الثانية لكن القائد الأيل للسقوط تصرف بعنجهية خائبة. إذ رفض الوقوف إحتراما للقاضي، المؤدب رزكار محمد، الذي عامله بكل أدب وأنسانية. هذا التصرف البغيض يظهر مدى كرهه للقانون والديمقراطية. أنه يؤكد بتصرفه هذا أنه لا ينم عن أية كياسة قيادية يفترض أن يتحلى بها كرئيس مخلوع. أنه لم يتعود ان يستسلم، لأنه يعرف نفسه أنه مدعوم من أحبته لكنه هذه المرة لم يفلت من قصاصه العادل.

 تخلى الصنم عن رفاقه في قاعة المحكمة حالما طالبوا بهويتهم. إذ طلب عواد حمد البندر عقاله وكوفيته ليستكمل شرفه العربي الذي أنتهك. وحالما أعيد له عروبته أدلى بأسمه وهويته بكل أدب. لكن لمَ لم يرتدو هويتهم وعروبتهم وهم طغاة بل يلتمسوها وهم مجرمين، قتله، أوباش. ومن الطريف بالأمر أن الجزار طه ياسين الجزراوي، الذي لايمت للعروبة بصله لا من قريب ولا من بعيد، أيضا طالب بكوفيته العربية ليحتمي بها وهو لم يلبسها يوما في حياته.

 لقد أنطلق قطار محاكمة قادسية العار التي ستفضح سادية القادة الذين حكموا العراق بالنار والحديد. ومانطلبه أن يستمر  قطار المحاكمة في إثبات كل الجرائم التي ارتكبها هذا النظام البغيض بحق كل العراقيين الشرفاء الذين أستشهدوا دفاعا عن كرامة العراق قبل وبعد الدجيل.

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com