لا زيت الزيتون البلدي اللذيذ الذي يفتت الكوليسترول في الشرايين، ولا الفواكه الطازجة, ولا مشتقات الحليب من المراعي الجبلية العذراء, ولا الهواء العليل في كسب, وصلنفة, والزبداني، وبلودان, وبقين, ولا امتداد البادية السورية الساحرة بمراعيها الغناء, ولا غنى الجزيرة السورية وخصوبة حوران, ولا الطبيعة الأخاذة هنا وهناك, ولا الجمال الكبير، وحب الحياة، ولا المياه العذبة التي تتفجر من الجبال الشم التي تعانق الأفق البعيد, ولا زقزقات العصافير عند الصباح وصوت الديكة وهي توقظ النائمين, ولا شعر نزار قباني الرقيق، ولا مسلسلات غوار, وحسني البورظان, وأبو عنتر, وفطوم وياسين, ولا تلك الشخصية الفذة التي جبلتها أجيال وأجيال من توليف الحضارات, إنه التعتيم الإعلامي وراء كل ما يتمتع به السوري من صحة جسدية ونفسية تبعده عن الكآبة والتعقيد, وذلك حسب آخر النظريات التي جادت بها قريحة استراتيجيي السياسة الفهمانين.
ويخلص المرء لنتيجة واحدة، وحكم قاطع بات, طالما حيّر الخبراء والمختصين، من خلال اعتبار جهابذة الإعلام السوري أن الإعلام الشفاف, والصريح الذي لا يمر على الرقباء يسبب الكآبة واليأس والإحباط للعالمين, ومن هنا لن يتعجب حين يرى الفرفشة والفرح على عموم السورين أجمعين, لأنه ببساطة لا إعلام لدى السوريين يصدع رؤوسهم وبالقيل والقال واستغياب الآدميين, وكشف المستور والمخفي، ويدفعهم في النهاية للانتحار.ومن هنا أيضا عليه، أن يتوجه بالشكر الجزيل لاستراتيجيي التخطيط الإعلامي العظيم لأنهم حافظوا على نفسية السوري نقية صافية، وجنّبوه على الدوام، حالات الاكتئاب اللعين .ولذلك حافظ هذا الإعلام الذكي على عافية الجماهير عندما أخفى كل شيء عنه, وجعل التعتيم الإعلامي الشامل شعاره الأسمى الذي حافظ عليه على الدوام, وصار من سمات الوطن السوري الجميل.لا بل امتد تأثيره ليشمل الدول المجاورة لسورية, حيث قال الأستاذ فؤاد السنيورة ردا على أحد الصحفيين الذي ذكر له جريدة "تشرين السورية"، في معرض أحد أسئلته, بأنه لم يسمع بها من قبل. وحمدت الله عندها كثيرا أن لم ينتحر أي جار بسبب أي وسيلة إعلام سورية, وحافظنا على صحة الجيران أيضا عملا بوصية الرسول الكريم. إذن السياسة الإعلامية السورية هي وراء كل مايتمتع به السوريون من نعمة الصحة التي هي تاج على رؤوس من لا وسائل إعلام لديه لا يراه إلا المكتئبين المساكين, والقراء النهمين.فعلمت وقتها بالذات السر الكبير وراء تمتع السيد السنيورة بالصحة والعافية والوجه النضير المنير, وليس بسبب العز والمال الوفير, وأعتقد لو أنه سمع بها من قريب أو بعيد، أو قرأ أيا من افتتاحياتها وعلى مدى ثلاثين عاما، لأصيب ليس بالكآبة فقط، ولكن بانهيار شامل، وبالصرع، والزهايمر, وانفجار الشرايين.
وأصبح السوري يتدلل، ويتغنج، ويتعفف، ويتمنع, ويرفض أن يسمع أي خبر فيه أي شك, وريبة، وتحامل على أي من الطهراء المعصومين, وقذف للأبرار الطيبين حتى بالورود والياسمين .وصارت كل أخباره من مثل استقبل وودع بالأحضان، والقبل، والفل, ولوح بيديه, وصفق الجميع، وعقدت الأهازيج والدبكات الشعبية والرقصات.وتعم الأفراح والأعياد وليالي الوطن الملاح عند زيارة أمين فرقة سعسع إلى رفيقه المناضل البارعضو قيادة فرقة الميادين للتباحث في المسائل ذات الإهتمام المشترك التي تهم فقط الثوار والمناضلين, تلك اللازمة التي رددت ملايين المرات, و تتسبب بتدمير الأرض عشرات المرات, وحيث يودع الضيف الحبيب بمثل ما استقبل به من حفاوة وبسط وتكريم.وكل ذلك تنفيذا لسياسة وهدف مقدس كبير، وهو الصحة النفسية للموطنين الكرام السوريين، وطبعا إبعاد الاكتئاب عنهم أجمعين.وضاهت هذه الخطة الجهنمية كل ما أنتجته مخابر باير, ولا روش من مضادات للاكتئاب، ووأدوية للصداع كالإسبرين.وكان هذا الاختراق العلمي الهائل قد فات مانحي جائزة نوبل للصحة لتشريف ألفرد نوبل باقتران اسمه بهؤلاء العتاولة الخارقين.
ومن هنا أيضا كانت حملة السيد وزير الإعلام على الصحفيين السوريين الذين يكتبون هنا وهناك باعتبار ذلك خروجا عن تقاليد الإعلام السورية الأصيلة في الإغلاق والتعتيم الذي يصل حد الخيانة العظمى وعقوبته القصوى الإعدام, ولكي لا يفكر أي سوري بأن يشنف آذانه للقيل والقال، والكلام عن السادة المعصومين, ودعوته إياهم للتوبة والرجوع عن هذا الفعل المشين.وأصبحت وظيفة هذا الإعلام، ومن خلال هذا الدور الفذ والفريد، مضادا طبيعيا للاكتئاب حيث أن كل أخباره"بايتة"و"وتفقتد لعنصر المفاجأة والمباغتة التي تسبب عادة العصبية وارتفاع ضغط الدم والأدرينالين, ولذا لم نسمع في حياتنا المديدة عن حالة انتحار واحدة على خلفية سياسية سوى تلك التي راح ضحيتها جنرال فولاذي مسكين, أزعجه ورود اسمه في تقرير تلفزيوني قد لا يحمل الكثير من اليقين.
وبدل أن يكون هناك أدوية بأسماء افرنجية, ولا سمح الله, للحزن والكأبة، صار لدينا صادات للاكتئاب مثل الثورة والبعث وتشرين, ومن هنا وجب على جماهير سوريا في هذه اللحظة الكئيبة التي نفر منها لاهثين, أن تطير برقية شكر، وامتنان على هذا الفضل الكبير لأصحاب الشأن العظيم, لأن السوريين، وحمدا لله, مازالوا على توازنهم النفسي محافظين، وفي ظلام التعتيم قابعين إلى يوم الدين. آمين.
وتمتعوا بالصحة والعافية, وهنيئا لكم، بمضادات الاكتئاب هذه، أيها السوريين.