أبِنْتَ الدّهْرٍ عنديَ كٌلّ بنتٍ فكيفَ وَصَلْتِ أنتِ مِنَ الزِّحامِ؟
يأتي تقرير ميليس ,رغم انعدام أهميته القانونية,مطلقا, وافتقاره للمصداقية الأخلاقية ,في مرحلة حرجة من المخاض السياسي الطويل في سورية, ربما تكون الأهم في تاريخه.هذا التقرير وضع البلد في دائرة الإستهداف الدولي المباشر, بعد أن وضعها طويلا في دائرة الاشتباه الجنائي .ولسنا هنا في معرض تقييم التقرير من الناحية القانونية, لسببين الأول أنه لا يستحق ذلك,والثانية لأننا ,بكل بساطة,لسنا "ضليعين" في القانون. ولكننا متأكدون ,تماما, من شيء واحد على الأقل, وبشكل مطلق ,وهو أن ما كان بالأمس نوايا خجولة ,وهمسا خافتا صار اليوم صراخا وزعيقا مؤرقا ,يعبر عن نفسه بشكل واضح,أكثر من أي وقت مضى,واضعا علامات استفهام كبرى على مصائر مجموعات شتى.
والتقرير الفضيحة زاد الوضع السوري تعقيدا وسوءا,وربما أصبح هناك استحقاقات قد تتوجب الدفع "الكاش"هذه المرة ,وقد لا تقبل "الشيكات" المؤجلة بتاتا.ويبدو أن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد اقترب خطوة أخرى نحو الأمام,ويعطيه هذا التقرير-الفضيحة-,ولا شك, دفعة كبيرة. ووضع معه العمل السياسي برمته في ثلاجة التأجيل,كما هو الحال بالنسبة للنشاط المدني,والحقوقي , في دائرة الاشتباه الأمني أيضا.وسيعطل,وحتى أمد غير منظور,أية إمكانية للتغيير السياسي السلمي الإيجابي ينعكس بمجمله خيرا على الصالح العام.ولسنا في معرض توجيه التهمة لأي كان ,طالما أن التقرير نفسه عجز عن ذلك ,وعن إيجاد قرائن دامغة يعتد,ويؤخذ بها في هكذا أحوال,كما ليس من مهمتنا,أيضا, تبرئة وتبييض أي كان أو التجني على الناس.والقضية برمتها مازالت كما كانت تماما ,وبعيد لحظة اغتيال الرئيس الحريري,تقع ضمن التكهنات بالنسبة للمحققين ,وضمن التمنيات,والأحلام ,بالنسبة لبعض السياسيين.
إن كل من يعول على التقرير من نواح قانونية صرفة فقد لا يجني غير قبض الريح,لكن التأويل السياسي قد يجلب الكثير,وأما "الشطط " ,والانجرار بعيدا وراء التمنيات ,فليس بمقدورنا من أن نمنع الحالمين بممارسة هوايتهم في إغماض العينين.ومع الاحترام الشديد لدم الحريري,ودم أبو "الأعداس" لغز الألغاز,وكل تلك الدماء العزيزة الي تسال بغير حساب, والتي يُلعب بها ,وتدخل في بورصة السياسيين ,فإن دماء السوريين ,ومعاناتهم ,وآلامهم , لهي بحق أغلى عندنا أيضا من رغبات الآخرين ,ولها تقدير واعتبار كبيرين لدى جميع المحبين المخلصين,ونتمنى ألا تدخل في مقايضة أية مكاسب سياسية ,ولأية جهة كانت,وهي ليست موضع رهان يقامر بها المقامرون.فلقد عاش السوريون ردحا طويلا من الزمان, وهم يتعطشون لذاك اليوم الذي يجعلهم ينعمون كجميع شعوب الأرض بالحرية ,والأمن الاجتماعي ,والسلام ,والازدهار الاقتصادي,والذي أعتقد أن هذا التقرير الفضيحة سيؤجلها وحتى إشعار آخر ,وسيصبح أي صوت مختلف آخر "تتناغم" مع توجهات الثعلب ميليس.
فبعد نغمة الصراع العربي الصهيوني التي اعتاش واسترزق منها المسترزقون,وبعد أسطوانة الثورة والاشتراكية التي تكسب منها المتكسبون,وبعد كوارث المدرسة التجريبية في حكم الشعوب التي جربها المجربون,وبعد وليمة الإصلاح الموؤود الذي التف عليها الشطار المتحذلقون, تأتي مهزلة تقرير ميليس لتطيل فقط في هذه المعاناة,ويصبح عندها أي صوت وطني,وأية دعوة للتطوير السياسي مرتبطة مباشرة بالتآمر مع ميليس ضد الوطن السوري, وستصبح هذه تهمة جاهزة لكل من تسول له نفسه "الآثمة" أن يحب وطنه,ويتمنى له الخير والصلاح ,ولو قليلا.وسيسبح السوريون طويلا في مدارات التقرير الأمر الذي سيجعل كل قضاياهم الملحة غير ذات جدوى أمام نتائج التقرير.وأن يجد الأزلام والمطايا والمحاسيب أبوابا للتكسب من جديد.
والسيناريو الأسوأ أن يؤخذ الشعب السوري بمجمله,هو أيضا, على الشبهة السياسية وبجريرة التقرير,ويدخل كله في نفق جديد من المعاناة ,وهو لمّا يبرأ بعد ,من عذابات السياسة وطيشها واجتهادات "عتاولتها" المجتهدين, التي جلبت الخراب والتدمير ,وكوارث بالجملة على الجماهير.كما أنه لم يلتقط أنفاسه بعد ركض حثيث ,وسلسلة طويلة من الإجحاف,والتقتير ,تعرض خلالها لمعاملة قاسية عبر ما يقارب نصف قرن من الزمان من إنكار لأبسط حقوقه بدعوى معركة المصير.وسيكون بالتأكيد المتضرر الأكبر من أية حماقات قد يرتكبها مجلس الأمن, والتي ستجد ضالتها,وتوجه لكماتها المؤلمة لفقراء السوريين ,وبؤساء المواطنين , وأطفالهم ونساءهم ,وشيوخهم المساكين الذين أفنوا أعمارهم بانتظار أن يمن عليهم الميامين بالحلم الكبير.والفقر الأسود المرير يطال الكثيرين منهم ,وما فتئوا يتنقلون من مأساة إلى أخرى,ومن كارثة إلى مصيبة,ومن نفق مظلم إلى دهاليز أشد ظلمة وسوادا .والخوف الأكبر أن يبقى المجرمون الحقيقيون طلقاء, ويدفع الثمن الباهظ بسطاء سوريا المحرومون الذين هم ليس في عير التقرير ابدا,ولا في نفير السياسة مطلقا على أحسن تقدير.
والوطنية الحقة تتطلب الآن ,ومن الجميع وضع مصير الوطن قبل أية اعتبارات أخرى,والتمعن والتبصر قليلا فيما وراء هكذا تقارير,لأن الغاية من كل هذه الخزعبلات السياسية ليس أفراد بعينهم ,وإن كان كثيرون لا يتفق معهم من حيث المبدأ,ولكن الوطن السوري العظيم ,الذي يبدو اليوم,وأكثر من أي وقت مضى, ومهددا في الصميم ,وعلى كف عفريت .