تضيق الدوائر ,وتقل الخيارات أمام سوريا في هذه الأيام, ولاسيما بعد ظهور تقرير ميليس بما فيه ألغاز,وألغام , للعلن.وأصبحت النوايا والتوجهات الدولية,ومسار الموقف الدولي موحدة تقريبا, وفي منتهى الوضوح ,وأكثر من أي وقت مضى.وكل القضايا التي حاول السوريون تأجيلها ,وتنويمها مرة مغناطيسيا ,وأخرى أمنيا, يبدو أنها أفاقت من سباتها بتوقيت واحد ,وعلى صدى أصوات "المؤذن" ميليس الذي أطلق إشارة البدء لذاك السباق الطويل الذي لا يعلم سوى الله وحده أن سيقف بعد الآن ,وتقف وراءه كوكبة,غير منسجمة, من دول العالم ,ولكنها متوافقة حيال النظر للملف السوري,وهذا ما يقلق في الأمر ويلقي نظرة على الجدية الأممية في التعامل معه ,وهذا ما يجعل التفكير باللجوء نحو وساطة ,وتدخل دبلوماسي دولي لتداعيات التقرير أمورا غير ذات جدوى.
وفي قراءة سريعة وبسيطة للمشهد الدولي ندرك مدى جدية الموقف وخطورته في ائتلاف القوى الفاعلة والمؤثرة في موقف واحد علني وصريح ضد سوريا.فواشنطن ,ولندن اللتان وجدتا صعوبة في ضم الجانب الفرنسي إلى صفهما ,أثناء غزو العراق,لم تجد نفس العناء عندما تعلق الأمر بالمسألة السورية لجهة استصدار أكثر من قرار دولي فيما يتعلق بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري,بل كانت باريس سباقة في مطالبات بدا معتدلا معها, في وقت ما , ما يصرح به عتاة المحافظون الجدد من هذيانات.ومن الطبيعي ألا يكذب الألمان محققهم المخضرم ميليس في كل ما يأتي به من نتائج ,فيما لا يعوّل على الموقفين الروسي ,والصيني بشيء على الإطلاق ,وظهر هذا جليا ,في أكثر من قضية دولية كانت مطروحة على بساط البحث أمام مجلس الأمن. ولعل هذا التوافق الدولي الفريد ,والذي قل نظيره ,هو ما يضفي طابعا من التعقيد , ويضع الموقف السوري في حالة من الضعف لم يسبق لها مثيلا على الإطلاق,ولن تفك عقده تلك البلاغة الأدبية النمطية التي يبدو أن القاموس السياسي السوري لا يملك سوى هذه المفردات .
وإن استمرار اللعب بنفس الأوراق القديمة وأسلوبها العقيم الجاف الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن,ودون اللجوء إلى أدوات عملية وبراغماتية واقعية ,ستشكل ,وبدون أدنى شك عوامل ضغط أخرى ,على نظام حكم أغمض عينيه ,وبغطرسة لافتة ,عن كل ما يحيق به من أخطار مستمرأ نفس ألاعيب أيام زمان,مع فارق وحيد في تشديد القبضة الأمنية على الداخل الضعيف والبخل ,ولو بكلمة واحدة,للشعب المسكين عن احتمالية ,ولو بسيطة للتغيير. ولا يزال كثيرون يراهنون على الخيار الأمني كأحد الحلول المطروحة للخروج من عنق الزجاجة,ولكن بنفس الوقت,وفي جلبة طبول الحرب,ينسى البعض أنه كان لهذا الخيار الباع الطولى في الوصول للمأزق الراهن. و ساهم نفر لابأس به من مخططيه الاستراتيجيين, ومنظريه العقائديين,في عملية التصعيد الخطابي الملحوظ في أكثر من مناسبة, واللجوء للمواجهة مع قوى دولية فاعلية, في الوصول إلى هذه الحالة من الشلل والضياع والدوران في الفراغ,وعدم القدرة على فعل شيء سوى النوح بتلك البكائيات الموجعة التي لم تفلح في منع تدهور الموقف ووصوله إلى هذا المكان.لا بل يجد المرء ومن خلال مايجري الآن ,استغلالا لهذه الظروف الضاغطة والقاهرة,للمضي قدما في الغلو والتشدد السلطوي مع الداخل,والأمر الذي سيوسع فقط من قاعدة المعارضين.وتعيدك اليوم مشاهد دمشق اليوم إلى ثمانينات القرن الماضي ,بكل مؤئراته الصوتية فقط,ولكن مع فارق كبير وجذري بالمعطيات اللوجستية,والظروف التي لم تعد كما كانت على الإطلاق ,إلا في مخيلة بعض من راسمي القرار الرومانسيين,الذين يبدو أنهم لم يعودوا ينظروا إلى تلك "الروزنامات" المثبتة على الجدار.
كما لن تفلح زيارة طهران في هذه الأيام العصيبة بالذات سوى في استفزاز الآخرين الذين يرون في ملالي إيران أس البلاء ,وصورة الشيطان ,الذي يبدو غير مغفلا عن دائرة الإقصاء والاستهداف,ولكن المسألة برمتها هي قضية أولويات.ويبقى الموقف العربي الأعرج, والذي تمتع عبر تاريخه الأسود بالتواطؤ والخذلان ,خارج كل الحسابات ,هذا إذا لم يكن في موقع الحليف الاستراتيجي للغرب الذي يؤمن التسهيلات اللوجستية لأي مغامرة عسكرية محتملة.والأهم من هذا كله إن المظاهرات المليونية الجياشة التي توحي بقوة ما للداخل الموزع بين اهتمامات وتيارات شتى,والعودة للاستقواء بالداخل ,الذي ظل معطلا ومغيبا كل هذه السنين بهذ الشكل الممل والكئيب,ستوجه رسالة واحدة نحو الخارج وهي مزيدا من التحدي والاستفزاز والتصعيد.