دراويش الفضائيات

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

لا يكاد المذيع أو المذيعة ,المبرمجة أوتوماتيكيا من طرح سؤال على أحد نجوم المعممين الذين تعج بهم الفضائيات,إلا و"يكر" له أو لها ,معلقة بذاتها لا يعرف غيرها ,وكأنه طالب في المرحلة الابتدائية يستظهر دروسه بذاك الأسلوب التربوي العقيم الذي وضع العقل العربي في ثلاجة أصلية تحافظ على تجمده بدرجات عالية تحت الصفر المئوي.,فما إن يُسأل صاحبنا الهمام"باب العلم وبحره الفيّاض" عن واحد من تلك الأسئلة التي دخلت باب النمطية التقليدية والقدرية القاتلة ,عن سبب تخلف "الأمة" وتقهقرها,واندحارها "الآن" ,أمام سيريلانكا ,وبورما ,وزنجبار, وكأنها في سابق الأيام اخترعت الذرة ,وقوانين الفيزياء النووية ,ويرجع لها الفضل في كل ما نراه من تكنولوجيا المعلوماتIT ,حتى يبادر بالقول إن ذلك الانحطاط الصارخ هو ببساطة بسبب ابتعاد الناس عن الدين ,وتركهم لشؤون دينهم .ويدعو الجميع صراحة لترك كل ما في أيديهم من علاقات والاستماع له وأن لدية الوصفة السحرية لكل شيء فقط من خلال هذه الأدبيات.مع العلم الفاقع الصاعق الذي يفقأ الأبصار,أن معظم الناس هم من المؤمنين بالله,ويؤدون الفرائض ,والصلوات ,والطاعات لساعات ,وساعات,وكثيرا ما توصف هذه البلاد بأنها بلاد محافظة في تفكيرها والسلوك العام.
ويسهب دراويش الفضائيات في تقديم الحلول السهلة ,والفضفاضة المبنية على الغيب,والتمنيات ,والإنشاء,أكثر من اعتمادها على العلم ,والبيانات,والنظريات العلمية,التي هي حتى الآن موضع تقليب ,وتمحيص ومراجعة في الدول التي تأخذ بها ,ببساطة شديدة, لكون الحياة في حالة تطور دائم وتغيير ,إلا عند أولئك الذين يودّون العودة بها قرونا سحيقة إلى الوراء , واعتبار ذلك الحل الوحيد,وإطلاق الشعارات العلنية , التي تدعو صراحة بالانكفاء نحو التاريخ السحيق لاستنباط الحلول القاطعة للمعضلات العالقة منذ فجر التاريخ .ولو نظرنا إلى ما يجري حولنا في العالم من تطورات ,لعلمنا تماما بأن ما كان سائدا من عقد ,أو بضع سنوات ,قد أصبح في حكم المنسي,وموضع تقييم ونقد وتطوير ,ولم يعد يتماشى أبدا مع ما نعيشه من تطورات في كافة المجالات, ثم يأتي واحد من هؤلاء ليقول لك ببساطة شديدة الحل في العودة للصحراء وتحديدا قبل ألف وأربعمائة عام من الزمان,هكذا بكل بساطة.ويسلط المخرج البارع كاميراته على المآقي المشبعة بالدموع والحسرات والعبرات لتوحي للمشاهد الذي وقع في فخ هؤلاء بذاك الجو الملائكي الطاهر النوراني ,وإعطائه بنفس الوقت جرعة مخدرة من عيار ثقيل تلهيه عما يعيشه من مآسي في ظل أنظمة الاستبداد من فقر ,وبطالة,وغلاء,ونهب للمليارات,وتكديس للثروات,ومغامرات للهواة ,وأنه غير معني إطلاقا بالسياسات,وبشؤون الحياة,لأن حياته-بطولها وعرضها- لاتهم ,في الواقع,أحدا على الإطلاق, والحل الوحيد أن يبقى في تلك الحالة الهائمة العائمة من الغيبيات والحلول الميتافيزيقية السحرية المؤجلة لكل المشكلات.
والسبب الذي يلجأ إليه البعض في ذلك ,هو في الحقيقة ذو أبعاد عدة ,منها أن لا حلول علمية وواقعية بناءة لديه لتقديمها للناس,ومحاولة واضحة منه لتسييس وضعه الديني,و"تسويق"نفسه باستمرار, تمهيدا لتبوء مناصب سياسية في كعكة الأوطان,وعرس توزيع المغانم والسبيات,وعلى أن لديه الخلاص من مجمل المشاكل المستعصية التي تعاني منها هذه المجتمعات,مع العلم بأن الأوطان بحاجة إلى ماء ,وكهرباء,وغذاء,ودواء ,وليس لمخدرات سياسية ودينية تطيل بقاء أجل المريض ,ولكنها لن تمنع عنه الزوال,والفناء.
ولو تلفتنا حولنا ,وتطلعنا إلى دول العام الأخرى , التي تعيش بحبوحة ,وطفرة اقتصادية ,وتقدم له ولأمثاله الخبز,والملح ,والماء ,والغذاء والدواء,الذي يبقيه حيا يرزق,ليركب الشبح ,والطائرات ,ويضارب بالبورصات ,ويكدس الأموال ,ويتحفنا بطلته البهية عند المساء في الفضائيات ,لو فعلنا ذلك ,لعلمنا أن هذه الدول قد وضعت كل هذه الأباطيل والثرثرة والترهات جانبا,ودساتيرها تخلو من أية إشارة لأية أديان,ولا تتميز جماعة,أو قوم أو رهط عن غيرهم سوى بالمواهب,والعمل ,والإبداع,مما جعل هذه الدول في النهاية تصدر الخبز لجميع الدول القابعة في ظلمات التاريخ. بينما لا يزال آخرون في نفس تلك الإنشائية والخطابية التي لم تتغير منذ عشرات القرون ,وتكرر يوميا وعبثا على مسامع الناس.وهذه الدول ليس لديها وعاظ يقرعون الناس ليل نهار بأنهم تركوا الدين ويتهمون شعوبهم بأقذع الصفات.وعلى العكس من ذلك تقدم لهم كل يوم مخترعات جديدة تزيد في رفاهيتهم, وتحلل لهم كل الظواهر الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل علمي من خلال مختصين وخبراء ,لا رجال جل عملهم هو في إقامة المشاعر الدينية وترتيل الصلوات .وتدعم ذلك بأرقام وبيانات وإحصائيات عن إنجازاتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد. .وكثيرا ما نجد تركيزا على مبدأ المواطنة,وليس التمييز بين المواطنين ونزع الجنسيات عنهم, وتحريم التمييز بناء على لون أو عرق ودين,وبل التشديد على قيم العمل ,والصدق,وتقديس الوقت. ولو صحت نظريات أصدقائنا المعممين لكان هؤلاء الناس في حالات من الهمجية والانحطاط,ولا انقرضوا من على وجه اليابسة , كونهم يمارسون حرية سلوكية شبه مطلقة من شرب للمنكر,واختلاط ,وإباحية,وعدم قضاء الأوقات الطويلة في مناجاة الغيب والدعاء على الكفار ,ولا يتمسكون فعلا بظواهر وقشور الأديان.
لقد حان الوقت ونحن نعيش في هذه الحالة من التخبط ,والضياع,والبحث عن الذات,واللهث المتعب للحاق بركب الناس, أن نحكم العقل , ونخاطبه علميا ومنطقيا,وندع الكلام لخبراء الاقتصاد,والعلماء المتبحرين في علوم الحياة الموضوعية ,وترك ما لله لله ,وما لقيصر لقيصر ,ونتوجه لعقول الناس ,وليس إلى غرائزها التي لا تختلف كثيرا عما يتحلى به الحيوان,وأكرمكم ,وأعزكم العزيز القهار.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com