|
تأملات في زمن لؤي
مهند صلاحات / كاتب فلسطيني مقيم بالأردن
" مجرد وقوف قصير بالقرب من نعش الشهيد لؤي السعدي، قائد الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي اغتالته قوات الاحتلال الصهيوني مع رفيقه ماجد الاشقر صبيحة يوم 23/10/2005م " كسنبلة قمح خضراء لم تنضج كان يرحل، وكانت السماء تعد الأعراس لتستقبل الفارس: هذا زمن الرحيل المستمر، تماماً كالطيور ... هنالك كان لؤي، حيث البيوت المتلاصقة، والأزقة الضيقة والأنفاس تختلط، حيث المخيم . لم يكن ليخيفه شيء حتى يختبئ، ولم ينظر يوماً لتجربة من رحل قبله برعشة أو وجل، كان الرحيل متعته التي اعتادها، أو ربما انتظرها منذ بدأ يشع، أي يعي مفاهيم السياسة وتضاريس البلاد. كانت عتيل تبتعد عنه، وكان يقترب منها أكثر، يجمع بينها وبين زمن المخيم. لم يكن لديه الوقت الكافي ليتعود مثلنا أشياء سخيفة جداً، كشرب فنجان القهوة كل صباح، واختيار أغنية فيروز التي قد تبدو أكثر ملائمة لطبيعة جو الصباح، فصباحات لؤي منذ اتخذ القرار كانت جميعا تعج بالغبار وتنضح بالدم، لا نكهة فيها لشيء يثير الشهوة أو الانطباع الفردي الجيد. جماعي حتى في الصباحات، ولا طعم للحياة لديه دون أن يكون بين رفاقه المقاتلين، فحتى في موته كان جماعياً، أو ربما رفيقه ماجد الأشقر لم يكن ليرضى بأن يترك هذه الفرصة سانحة للموت مع لؤي وتركها تمر كقارب في نهر. لم يفاجئ خبر استشهاده أحد، وكأن الجميع كان ينتظر الخبر، ربما فقط لم يكن أحد ليتوقع الساعة المحددة ، أو ترك الحسابات للأيام ذاتها تحتسب، حتى الأم التي لم ترَ لؤي منذ خروجه من السجن كانت أيضاً تنتظر،وتقف كل يوم على الشباك تحمل القمح للعصافير وترفه كفيها للسماء، لا تنتظر لؤي يعود إليها كما كان منذ سنوات كعصفور يحلق عائداً لها من رحى مدرسته، كانت تنتظر فقط خبر زفاف شهيد أخر في فلسطين يكون ابنها كما كل من سبقوه من رفاق لؤي. لم يفاجئني أيضاً خبر استشهاد لؤي، لكنه جعل شيء داخلي يبكي حيال هذا الغياب المتوقع للؤي الذي لم يكن بيوم يملأ أي فراغ محسوس عندي، فقط كنت أسمع عن لؤي الذي تخرج من مدرسة فتحي الشقاقي وقاد المعركة بعد أن تسلم الراية من فوق فرسه من مخيم جنين وعاد بها يعبر مضيق الجبل الذي فصل المقاتلين الثوار عن الأعداء، عاد لؤي يحمل راية سلمها إليه محمود طوالبة. لم يخطر ببالي لحظة أن تكون نهاية الحصار لطولكرم مجرد تسليم، أو استسلام من لؤي نفسه، وقد استغفرُ اللهَ إن خطرت لي تلك الفكرة، رغم أني كنت أرى الكثيرون يسلمون المدينة تلو المدينة في زمن الاشتباك كما اسماه غسان كنفاني، ويرشون الماء فوق الاسمنت الذي يبنى حول المدينة لحصارها. لؤي كان يقف دوماً بعيداً عن الحضور غير المفيد للناس، يبتعد دوماً عن المناطق التي لا تجري فيها الاشتباكات، لأنه تربى كأطفال غسان كنفاني أن يعود إلى المخيم وهو في زمن الاشتباك، أن يظل زمانه زمان اشتباك مستمر دون هدنة أو توقف، فكان الشرارة التي جعلت العدو من خوفه يكسر الهدنة التي لم يكن ليرضى بها لؤي نفسه. وفي زمان الاشتباك قرر لؤي الرحيل مع رفيقه الأشقر، فأبو إبراهيم ما كان ليرضى لتلاميذه ورجاله، وحتى أصغر الصغار منهم "لؤي" بأن يرحل عن الأماكن الجميلة في الوطن والوجوه التي نحبها، إلا على طريقة اغتياله هو في مالطا، أو لا يسبق الموت تفجير لسفارة كاملة للعدو، أو معركة كاملة يقودها بضع رجال ومحمود طوالبة ضد جيش مسلح حتى أسنانه. كيف لا يكون الموت هكذا على طريقة أبا إبراهيم وكلماته تأتي كالريح من الغرب لتهب كل مساء على فلسطين تطرق النوافذ وتقول :" هذه الأمة على موعدٍ مع الدم، دمٌ يلون الأرض، دمٌ يلون الأفق، دمٌ يلون التاريخ، دمٌ يلون الدم، ونهرُ الدمِ لا يتوقف، دفاعاً عن العقيدة، دفاعاً عن الأرض والأفق والتاريخ ، دفاعاً عن الحق والعدل والحرية والكرامة". لذلك يا لؤي لم يكن مصادفة أن يكون أكتوبر جامعاً لموعد رحيلك بأبي إبراهيم في خلده، فهو إذاً موعد للرحيل والهجرة، تماماً كما للطيور موسم للهجرة، كان هذا الأكتوبر موسم الهجرة الموسمية للشهداء. رغم حيلك المتوقع كان عندي أمنية، سأذهب اليوم لدفنها بعيداً عن محيط البيت والحارة وحتى المدينة، بعد أن صار تحققها كأماني البشر بأن يعود الهنود الحمر لأمريكا من قبورهم، كأماني الغاضبين بأن تأتي العنقاء ، أن تنهض من ركام الخيام المحروقة والبيوت المدمرة في دير ياسين وصبرا وشاتيلا، صبرا يا لؤي، حيث الرجال هناك ينتظرون عودة الرجال، حيث الرفاق هناك ينتظرون مجيء لؤي ليزفوه بالورد والأس والياسمين، كانت أمنتي التي رحلت هي أيضاً، أن نلتقي، لأسألك كيف كنت تقاتل في الميدان، وتتحرك بخفة جساس في المعركة، والآخرون يحملون المدافع على أكتافهم ويطلقون بها للخلف، لصدور شعبهم ؟ كيف لا تصبح الفدائي الأخير ومن حولك كلهم استراحوا استراحة المقاتل الطويلة، ربما إلى الأبد؟ كيف امتشقت البندقية في زمن الحلول السلمية والمهادنات على الشهداء والدم والسجون المغلقة من كل الجهات ؟ كيف كنت تعليم الآخرين المبادئ، والآخرون في الطرف يبيعونها في سوق النخاسة السلمية ؟ كيف استطعت أن تظل كل هذه المدة الأخير ، في وسط هذه المهزلة ؟ لؤي، لا ترحل كثيراً، لا تُدمْ الغياب، ولا تًدمِ القلوب. صورتك على الحائط القريب توجعني وصوتك لم يزل يسكن في داخلي كصوت انتظاري لطرق الباب. لؤي لا تبتعد كثيراً، فمن باعوا بلدي، سيبيعونك لسوق النخاسة، والتجارة بالمبادئ. لؤي ..... الله وأكبر.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |