مغالطة وطنية أم مصالحة

 

محمد سعيد المخزومي

almakhzumi2@hotmail.com

 

ببداهة العقل ومنطق الفطرة ومن دون الذهاب بعيدا في البحث اللغوي ومداليله عن الوطن والوطنية والمصالحة الوطنية, أقول لمن ينادي بالمصالحة الوطنية للعراقيين ببداهة العقل الفطري: لو أن مجموعة من سكنة بيت كبير يشاركونك التوطن فيه, قد اقدمت على ابيك فقتلته, واخوتك فمثلّت بهم, وأمهاتك واخواتك فاغتصبتهن, ثم روّعت اطفالك ومزقت اشلاءهم, ثم ياتيك بعد حين من كان يتفرج على مذبحتك فيطالبك المصالحة مع ذباحيك, فيقول (لا داعي إلى الثار أو العنف والعنف المضاد ضرورة نسيان الماضي), ثم يطالبك السماح لهم بالسكن في ذات البيت الذي تتوطن وانتهك حرماتك فيه, بل واكثر من ذلك ليشاركك البيت وما تفعل في البيت, وعليك ايها المذبوح المُنَكَّل به التعامل مع هؤلاء الجلادين على نوع من الوئام والمحبة والتسامح على أنهم مواطنون يشاركونك المواطنة ؟

بل عليك أن تدوس على جراحاتك وحقوقك وكرامتك فتتآخى مع مغتصبي نسائك, وقتلة ابيك, وجلادي اخوتك, ومنتهكي اعراض بناتك واخواتك, ومروّعي اطفالك ومهدمي دارك عليك.. و..و..ذلك أن مقتضى المواطنة الإنسانية يستوجب ذلك حسب زعم دعاة المصالحة الوطنية .

وهنا اتسائل: هل يقبل عاقل بهذه المصالحة ؟؟ وهل يعتبرها أحد مصالحة وطنية؟ أم هل يعتب أحد معك إذا لم تتصالح معهم ؟

الواقع إن من الحماقة والبلادة أن تقبل بالمصالحة مع هؤلاء المقترفين بحقك هذه الجرائم, إذ يمكن لأحد مجالستهم ومساكنتهم ومؤاكلتهم أو معاشرتهم.

أما إذا ما ألَحَّ عليك بالمصالحة مع هؤلاء الجزارين متبجحا بالديمقراطية ومتشبثا بالوطنية ومتذرعا بالإنسانية فستعرض بوجهك عنه, وعند اشتداد اصراره فلا تجد عاقلا إلا وينتفض بوجهه موجّها إليه صفعة الخيانة, ولطمة التآمر مع الجلادين, كائنا من كان .

ولقد اطلنا البحث عن المصالحة الوطنية في حينها وكتبنا عنها مفصّلا تحت عنوان (المصالحة الوطنية بين الإخوة حياة), وبيّنا :

أن الوطنية هي النسبة إلى الوطن, وكلمة الوطن في معاجم اللغة هي محل الاقامة والسكن, وان الاقامة والسكن كلمتان لهما من المعاني والدلالات التي تحمل معنى الركون والسكون إلى المكان, والاستقرار فيه, وحمل النفس عليه حتى يصبح ذلك محلا للاستقرار ومقرا للاستيطان.

ثم أن كلمة الاستيطان والتوطن تحمل معنى الإقامة والمكوث الذي يستلزم العمل على البناء والعمارة وترتيب أمور الحياة, وإلاّ فلا توطن ولا إقامة من دون بناء أو عمارة أو استقرار.

والوطنية نسبة الشيء إلى الوطن, والإنسان الوطني هو الذي يحب التوطن بذاك الوطن ويعمل على بناءه, وعمارته, وتطويره, وان تطويره يستلزم محبته ومحبة أهله المواطنين معه على تلك الأرض, لأن قيمة الوطن بالإنسان, والوطنية يالانسانية,  فإذا تجرد الإنسان من انسانيته فقد خسر مصداق التوطن والمواطنة.

وقد بيّن الله تعالى أن الذي يسعون في الأرض فسادا, ويعملون على اذلال الإنسان وتدمير البلاد, يكونون قد اسقطوا حق المواطنة, وكتاب الله صريح بذلك حيث قال عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ([1])

فكان النفي دليل واضح على إسقاط المفسد حقه من المواطنة بما عمل من جرائم في حق الوطن والإنسان والإنسانية. وهذا بالطبع غير النفي الذي اعتاد عليه الحكام في نفيهم من يخالفهم سياسيا أو يعارض افكارهم أو مناهجهم, الأمر الذي يرفضه الإسلام ويحرمه القرآن الكريم.   

ومن هذا المعنى اللغوي والمدلول المعنوي للمواطنة, نستخلص القول على ان من عمل على تدمير البلد, واهانة إنسانه, وتخريب اقتصادة, وتأخير عجلة تطويره, واسقاط هيبته وكرامته أمام الأمم الأخرى, ليس بوطني البتّة.

وعليه فإن المصالحة الوطنية يجب أن تكون مع من يشاطر المواطنين هموم البناء, والعمارة, والحياة, لا التفرد والاستبداد, والاستثراء, ولا القتل والتشريد والاستحواذ, ولا الإبادة في مقابر جماعية, ولا التفنن في انتهاك الحرمات, ولا الوغول في الدماء وانتهاك اعراض النساء, وغيرها من المفردات التي تُسقط وطنية الإنسان وتخل في أحقيته بالمواطنة وتجعله في عداد المفسدين, بل تلغي وجوده في الحياة, وتنفي أمر التعايش معه في المجتمع الإنساني على الإطلاق.

   إن ما اقترفه نظام البعث(النظام يشمل قادة الحزب زعماء الحكم, والاجهزة الأمنية والعسكرية التي باشرت ارعاب الناس وتدمير مدنهم وبيوتهم وقتل أبناءهم ودفنهم في المقابر الجماعية وغيرها) وما صنعته في عراق المقدسات لا يمكن أن تقبل به إنسانية إنسان قط, خصوصا وأنه البلد الحاضن لرجال الحضارة والتحضر, والشعب المسالم المحب لوطنه الذي لم يستأنس بالهجرة يوما إلى بلاد العالم  فضلا عن السفر إلى البدان المجاورة لولا التعسف والإرهاب والتجبر, انه شعب معطاء عرفته حتى حكومات الطائفية العربية.

وإن النظام البائد وحزب البعث بفكره الطائفي ومنهجه الارهابي, واجهزته التي تفننت بتعذيب الشعب قبل سقوط الصنم وبعد سقوطه واحتضان بقاياه لكافة مجاميع الإرهاب واحزاب التكفير وحركات التدمير, لن يصح التفوّه بالمصالحة معه, ولا تجوز الدعوة إلى العفو عنه.

ومن اجل تسليط الضوء على مبدأ المصالحة التي يزعمون لابد من تشخيص الذي يمكن أن تصح المصالحة معه ومن لا تصح, وذلك من خلال بحث الأمور التالية:

الأمر الأول: مصالحة الشعب العراقي مع أهل السنة

بالنسبة إلى مصالحة الشعب العراقي بشيعته وكرده وتركمانه وغيرهم مع أهل السنة قضية لا بد من بيان ما قد ظهر منها وبان لكل اعمى فضلا عن المبصر في العراق والعالم, بأن أبناء جلدتنا من أهل السنة كانوا يستأثرون بكافة الامتيازات خلال العقود بل القرون السالفة في العراق, وقد استخدمتهم النظم التي استولت على الحكم في قمع الشيعة حتى سمّى صدام نفسه المحافظات الثلاث التي يقطنها الغالبية السنية بالمحافظات البيضاء خلال قمعه الانتفاضة الشعبانية عام 1991, لتبقى بقية المحافظات الخمسة عشر محافظات سوداء محكوم عليها ليس يوم الانتفاضة بالقهر والإرهاب والاعدام بل منذ اليوم الأول استيلاء حزب البعث القومي الطائفي على حكم العراق.

وهذه تعني أن شعب العراق كان مضطهدا من قبل أهل السنة, وقد رافق هذا اضطهاد ديني, وحرمان اقتصادي, وتخلف عمراني, وإذلال معاشي, وإقصاء اداري, وتفكيك للتركيب الأسري, وتدمير للبناء الإجتماعي, وتفنن في الإرهاب السياسي, والوغول في الإرعاب النفسي وغيرها من مفردات الإقصاء والإرهاب والإذلال, وكان ذلك كله تحت مرئى ومسمع بل مشاركة وقبول وتاييد أهل السنة في العراق.

وحينما هوى عرش الطاغوت هاجت الحكومات العربية الطائفية لتثير شبهة التخوف من إمكانية انتقام الشيعة من السنة, وبعثت التكفيريين وآوت البعثيين ونظمت شتاتهم ليقوموا بتدمير العراق الذي ينوي العراقيون بناءه, ثم عمدوا إلى ذبح الشعب العراقي بانواع الاساليب وبكافة الطرق وشتى السبل التي يأذن بها الشيطان.

وهذا ما لا يحتاج إلى اثبات ولا إلى دليل, بل الذي يحتاج إلى التأكيد عليه لدعاة المصالحة الوطنية هو تعامل الشيعة بكامل الحضارية وبما يمليه عليهم التزامهم بمناهج أهل البيت في التعامل مع الخصوم, فعفوا عنهم, وتسامحوا مع أهل السنة بكامل معاني الأخوّة الإسلامية التي يؤمنون بها وسبق أن تعلموها من أئمتهم عليم السلام, حتى كانوا يجوبون شوارع العراق بالهتاف المعروف:

 

لا سنية لا شيعية                     وحدة وحدة إسلامية

 

ومع ذلك أعلنت مرجعيتهم الدينية أن ( لو قتلوا نصف الشيعة لم ننجر إلى حرب طائفية) .

وهذا هو المنطق الحضاري للشيعة المذبوحين في التعامل مع ذباحيهم من أهل السنة, وهذا اكبر دليل على عدم الحاجة إلى المصالحة الوطنية معهم, لأن المصالحة تعني التسامح, وأن الشيعة كانوا متسامحين إبتداءا, فلم يقابلوهم بعنف ولم يجازوهم بالمثل قط.

ومثلهم الأعلى إمامهم وأميرهم أمير المؤمنين عليه السلام في تسامحه وعفوه وصبره, إن هذه المناسبة تدفعنا إلى ذكر القصة التالية:

لقد نقل هذه القصة الشيخ محمد الطنطاوي في مقال له في مجلة رسالة الاسلام انه:

 قال الشيخ نصر الله بن مجلي، وكان من ثقاة أهل السنة: رأيت في المنام عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يَتُمُّ على ولدك الحسين يوم الطف ماتَمَّ ؟.

فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا ؟

فقلت: لا.

فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت، فبادرت الى دار حيص بيص، فخرج الي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله ان كانت خرجت من فمي أو خطّي الى أحد، و ان كنت نظمتها الا في ليلتي هذه، ثم أنشدني:

ملكنا فكان  العفو منا سجية             فلما ملكـتم سال  بالـدم أبطح

وحللتم  قتل الأسارى وطالما             غدونا على الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا  التفاوت بيننا             وكل إنـاء  بالذي  فيـه  ينضح ([2])

 

فهذه هي تربية اهل البيت لشيعتهم, وهذا هو منطقهم الحضاري مع خصمهم اذا ما قدروا عليه يوما ما.

وخلاصة القول فلا داعي إلى ما يسمونه بالمصالحة الوطنية بين السنة وبين الشيعة على الإطلاق, لأنهم متصالحون ومتسامحون معهم وقد اشركوهم في الحكم, وفي صياغة الدستور بعد أن عرضوا بوجههم وقاطعوا الانتخابات السابقة, فالمصالحة بين الشيعة والسنة أمر مفروغ منه, أو كما يقول المناطقة سالبة بانتفاء الموضوع.

الأمر الثاني: مصالحة الشعب العراقي مع حزب البعث

إن مصالحة الشعب العراقي بشيعته وكرده وتركمانه وغيرهم مع حزب البعث, قضية تعني أن المصالحة مع البعثيين المتوغلين في الجريمة تعني المصالحة بين الجلاد والضحية, وليست بين اخوة اختلفوا على شيء أو تنازعوا على أمر. وإن ما يتبجح البعض به فيما يسمونه المصالحة الوطنية يعني: أن يسكت المظلومون عن مظالمهم ويصافحوا ظالميهم بل يعانقوا جلاديهم وجزاريهم, وهذا هو عين الجريمة, لأنها مخالفة لمنطق القرآن الكريم الذي يؤمن به المسلمون جميعا, حيث القصاص العادل هو القضية الفصل لفساد المفسدين الذين نهى الله تعالى بصريح قوله بعدم التعامل معهم فقال: (وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ([3])

ذلك لأن سجية المفسد هو الفساد, كما سجية المرض الانتشار, وطبع الجرثومة قتل الاجسام السليمة التي تصادفها ذلك ل(إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) ([4]) وبهذا فلن يكون السبيل العقلائي الاسلم للبشرية في التعامل معه إلا الاستئصال.

خصوصا وان المفسدين حسب ما ذكره كافة المفسرون من المسلمين يعني الذين يقومون بارعاب الناس وإرهابهم وتدمير حياتهم وإفساد استقرارهم.

وبهذا البيان الاولي ألم يكن البعثييون فراعنة عاثوا في العراق الفساد وأهلكوا فيه الحرث والنسل ؟

ألم يقتلوا الرجال ويبيدوا الاطفال ويستحيوا النساء ويرتكبوا المجازر الدموية التي يشهدها العراق حتى هذه اللحظة ؟

ولو كان أمر المصالحة مع مقترفي هذه الجرائم واردا في قاموس الإنسانية لكان قد أمر الله تعالى بالتسامح والمصالحة معهم, ولكن سماهم مفسدون في الأرض فقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ([5])

ولما كان هؤلاء القتلة مفسدين في الأرض فقد ابغضهم الله تعالى وحرم محبتهم والتعاطف معهم فقال: (إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ([6])

ثم لو كانت المصالحة معهم عملا عقلائيا لشجع رب الارباب عليه, بينما قد أمر بعكس ذلك وبيّن جزاءهم الذي يجب أن يلاقوه فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ([7])

  وهل من عاقل وذي ضمير يطالب بالمصالحة مع من يفعل هذه الجرائم العظام التي ما زال يندى لها جبين الإنسانية حتى اليوم ؟

فالمصالحة إنما هي بين الاخوة أولا وبين أبناء الوطن ثانيا, أما بين المفسدين والمصلحين, أو بين الضحايا والجلادين فأمر تحرمه الإنسانية وتكرهه البشرية, وتلعنه السماء, ولا تتودد إليه إلا وحوش الغاب التي تريد مخادعة الضحايا من أجل المزيد من الوغول في الدماء والتلذذ بتمزيقها الاشلاء .

وهذا ما لن يقبله أحد من العراقيين الضحايا الذين دفعوا ثمن العزة باهضا وعزَّ مَنْ قائل: (وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ([8] )

يقول أحد ضحايا ذلك النظام المفسد في الأرض, أيام فترة سَجنه الذي هرب بفضل الله منه, ذاكرا هذا الموقف البطولي (؟) للبعثيين الذين يراد للعراقيين المصالحة معهم فيقول:

(اثناء اعتقالي في مديرية الأمن العامة في بغداد: جُلِبَ عدد من الطالبات من كلية العلوم في جامعة بغداد الى مديرية الامن العامة وأودعن فيها, وكن من الاسلاميات, وتعرضن لمختلف انواع صنوف التعذيب.. عام 1980...وكذلك اعتقلت عوائل كاملة عديدة من بغداد ومدينة الكاظمية).

ثم عطف بقوله انه:(حدث امامي مرة, أن جلبت طالبة واخوها من جامعة بغداد تم تعريتهما من جميع ملابسهما, وربط الاخ بحبل وهما عاريان تماما بحيث يقابل عضوه التناسلي مع عضوها(!!!) .

وبقيا على هذه الحالة مربوطين عاريين !

إلى أن قال: (والذي اذكره قد صدر بحقهما حكم بالسجن.)

وهنا يسكت الشاهد عن الكلام ليبقى الجواب عند شرف العروبة وطائفية المشروع القومي في العراق.

وهنا يتسائل ضمير الإنسانية قائلا: هل تريد الجامعة العربية أو دعاة الوفاق أن يصالحوا بين هؤلاء المفسدين وبين الذي عاثوا بهم فسادا فقتلوا رجالهم وابادوا ابنائهم واستحيوا نسائهم وهدموا على اهلهم منازلهم وديارهم, وهجروا بقاياهم في العراء, بلا غطاء ولا وطاء .

 

الخلاصة

وفي الختام اختصر القول في ذكر الحقائق التالية:

الحقيقة أولى: لا داعي للمصالحة الوطنية بين عامة أهل السنة والشيعة, لأن الشيعة سبق وأن اعلنوا تسامحهم وعفوهم عن كل ما اقترفته انظمة الحكم السنية بحقهم.

الحقيقة الثانية: وتختص في السياسيين من أهل السنة, والكلام فيها يمكن تلخيصه بما يلي:

أولا: السياسييون المعتدلون من السنة

وهم كل القوى السنية التي عرفت المظالم التي اُقترفت بحق الشيعة, وخبروا طائقية النظم السنية التي اقصت وابادت اخوانهم من شيعه أهل بيت نبيهم, وبالتالي فكثير منهم قد دخلوا فيما يسمى بالعملية السياسية للواقع العراقي الجديد, ومن لم يدخل منهم فهو يتفهم ضرورة العمل على بناء العراق وليس هدمه.

ثانيا: السياسييون المتطرفون من السنة

ويشكلون القوى السياسية السنية التي تلتزم عادة ومنذ القدم خطاب العنف السياسي والديني على حد سواء, وعادة ما ينقسم هؤلاء إلى قسمين اساسيين:

القسم الأول: ائمة التطرف

وهؤلاء يمثلون زعماء التطرف وقادة العنف قديما وحديثا بالعراق, ويتميز خطابهم بأنه لن يقبل دون لغة الدم لغة, ولا عن الإقصاء والإرهاب والعمل السياسيي تحت ظل السيف حوارا بديلا قط, ومثل هؤلاء فلا كلام معهم لأنهم قد اختطوا منهج العنف في حق الشعب والانتقام منه, وعندئذ فالشعب طرف الخصام معهم وهم وإياه خصمان يتفاهمان على احقاق الحق وابطال الباطل بلغة المظلوم مع الظالم.

القسم الثاني: الاتباع المتطرفون

وعادة ما يشكل هذا القسم كل المنخرطين في تيار العنف من الاتباع الذين تغرر بهم, واكتشفوا أن باب لغة العنف موصد مسدود, وأن ثقافة العنف لا تبني بقدر ما تهدم, ولا تحترم للإنسان إلاً ولا ذمة, وبالتالي فهؤلاء يرون ضرورة مراجعة حسابهم والعودة إلى احضان شعبهم.

والسبيل المنطقي الأسلم لهم هو عدم خوض الغمار السياسي ثانية ما لم يتمكنوا من التخلص من مخلفات ثقافة العنف التي سبق وأن اعتادوا عليها ردحا من الزمن, الأمر الذي يستلزم منطقيا التريث والاستراحة من غبار ميدان السياسة ريثما تتلاشى عندهم حمى ثقافة العنف, ويعملوا على مجاهدة النفس في انتزاع عوامل التعنف التي اتخذت عندهم طابعا انطبعت عليها انفسهم, واصطبغ بها إنسانهم, ثم يعملوا على حمل النفس على ثقافة جديدة تعتمد البناء والحوار الهادف والتحالف البناء والمشفوع بالمحبة والتخلص من التعصب لأية جهة سياسية أو دينية أو غيرها, والتفريق بين التعصب لجهة والمحبة لها, إذْ يمكن للإنسان أن يحب من يشاء ولكن عليه أن لا يكون متعصبا بما يسقط عنده العقل والعقلانية فيظلم حق غيره ثأرا لباطل نفسه أو حزبه.

وأن ميدان نقد الذات ومراجعة الحساب مهم إذا ما حمل الإنسان نفسه عليه, لما سيحملها على الواقعية والبناء واحترام إنسانية الإنسان.

وقد أكد الله تعالى أن أساس رسالة الإسلام هو البناء وليست الهدم فقال:

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) ([9])

وأن العنوان الأساس لرسالة الإسلام هو العمل من اجل الإنسانية على اكبر الأصعدة الذي يتمثل بصعيد الرحمة بالإنسان والعطف له الرحمة به والتحنن اليه, وعدم الانتقام منه وإقصاءه ولو كان عدوا لدودا ذلك العنوان الذي لخصه بيان (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ) فأمره بالتعامل مع الآخرين ليس بالحسن بل لأحسن القول والفعل والتصريح بل وحتى التفكير فقال له (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) مع الجميع بدون استثناء (فَإِذَا الَّذِي ) تتعامل معه غي ميدان السياسة أو غيره كان ( بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ) فيجب أن تتعامل معه و(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ([10]), وتلك هي  حضارية الإسلام التي تباعد عنها المسلمون سياسيون كانوا أم غيرهم.

ذلك لأن منطق الإسلام هو الرحمة واحترام الإنسانية حيث عنوانه الواسع (وَما أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ([11]) وليس الطائفية أو التعصب القومي والحزبية وكل ما يتصل بصلة إلى تمزيق المجتمع الإنساني وسحق إنسانيته تحت اقدام الأنانية.

 


[1] - سورة المائدة/  آية 33

[2] - مجلة رسالة الاسلام العدد30ص 87

[3] - سورة الاعراف / اية 142

[4] - سورة يونس/ اية 81

[5] - سورة النمل/ آية 2

[6] - سورة القصص/ آية 77

[7] - سورة المائدة/ آية 33

[8] - سورة المنافقون/ آية 8

[9] - سورة الجمعة/ آية 2

[10] - سورة فصلت / آية 34

[11] - سورة الانبياء/ آية  107

  

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com