الغائب الأكبر

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

تطوى صفحات العمر الكئيب صفحة وراء صفحة,وتتساقط ورقة بعد ورقة أوراق السنين البطيئة,وتتوالد فوضويا الشعيات البيض في الجبين والمفرق المترهل ,ويحدودب الظهر ويكثر معه الآه والأنين,وتفتر الهمم ,وتذوي الوجوه النضرة ,وتخفت الابتسامات ,وتذبل القامات العالية وتضعف مع تقدم السنين,وتتضاءل نبضات القلوب الحزينة الثكلى بوطنها الجميل , ويئد الأحلام الصغيرة للفراشات والعصافير "دراكيولات" العربان من الشرهين وللدماء ظمآى ونهمين ,وما زال كل شيء على ماهو عليه من رتابة ,وترديد لقدريات عجز الدهر من أن يدخل عليها أي تعديل.
وظل هذا الشعب المهمش الطريد خارج كل حسابات قياداته سنينا طويلة من الزمان,لم يأبه به ,أحد ,ولم ينتبه لوجوده مسؤول على الإطلاق ,وكان مجرد ديكور في لوحة خلفية لا تظهر على المشهد العريض,وظل عقودا خارج الحسابات السياسية كلها,وبعيدا عن الكعكة الوطنية الدسمة التي كان يتم اقتسامها بين المقربين,والأزلام والأوصياء والعساكر والمحاسيب.وكان مطلوبا منه دائما أن يعمل بصمت كعبيد الإهرامات الذين كانوا يحملون الكتل الصخرية الكبيرة عشرات الأمتار في الهواء بصمت مهين,ويموتون عطشا وقهرا في الصحراء.ودخل هذا الشعب غيبوبة كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية حرّم فيها عليه أن يعرف ماهي أنواع السيارات الحديثة,وماهو الإنترنت,والجوال,وبعض المخترعات البسيطة التي وصلت أدغال أفريقيا والأمازون ظلت محجوبة على هذا المواطن البائس التعيس بحجة أن أي شيء من هذا القبيل يعرض أمن الدولة العليا للخطر,وظلت عين السلطة تنظر بعين الشك والارتياب لهذا المواطن واعتباره متمردا,ومشروع مؤامرة يجب حصاره من كل صوب وإحكام الطوق الأمني عليه بأقسى ما يمكن من أساليب .وضاع وتاه بين تحليلات الستراتيجيين ,والمنظرين العقائديين الذين كانوا يفسرون له ظواهر السياسة الاقتصاد ,وعلوم التنجيم الأخرى ليخرج في نهاية الزفة حائرا تائها كمالك الحزين.
ما أدى بدوره لعمليات نزوح وخروج كبرى صار فيها هذا المخلوق الهزيل واحدا من أكبر زبائن السفارات ينام ويصحو على أبوابها,وينتظر رحمة التأشيرة لتنقله إلى بر الأمان في أي مكان خارج جحيم الحصار ,والطوق الأمني,والفقر والإفقار المنظم حيث كان كل ما يأتيه من ذلك الراتب الضئيل لا يكفي لقسط يسير من الضرائب الباهظة التي فرضت عليه لإبقائه في حالة من اللهاث الدائم, وكان مطلوبا منه دائما الدفع ,والاستنزاف المستديم ,وأن يتعرض للتشليح بدءا من المختار وليس انتهاء بالناطور أمام دوائر الدولة ,وأي خفير,حيث كان دمه مهدورا ,وحياته مستباحة للجميع. وكان عليه الجري المستمر وراء لقمة العيش التي أصبحت مغمسة بالذل والخوف من أي عريف . وحتى الآن ظل المهاجر المسكين يتساءل ما ذا سيحل به لوارتكب غلطة العمر ,وفكر بالعودة لوطنه يوما والاستقرار في تلك الأحضان الطيبة البسيطة الوادعة التي ترعرع فيها بين الأحبة والخلان وزملاء العمر الجريح ,وفي أي فرع أمني سينتهي به المصير؟
وعندما كان يطالع الافتتاحيات التاريخية النارية لعتاولة الإعلام "الرصين"من أمثال عميد خولي ,وخلف الجراد,ومحمد خير الوادي,وأحمد الحاج علي, وتركي صقر,رؤساء تحرير صحف الإستنساخ الأشهر في التاريخ ,كان يبحث في ثنايا هذه الافتتاحيات النارية,وسطورها ,وطلاسمها الثورية ,وأحاجيها النضالية عن أية كلمة تخصه أوتهمه من قريب أو بعيد ,وتعطيه جوابا شافيا عن مستقبله ومستقبل أسرته ,فيما كان هؤلاء العتاولة الأشاوس يسبحون في محيط لا قرار له من التطبيل والتفخيم ,والحديث عن الاستعمار والامبريالية والصهيونية والمصير المشترك وتلازم المسارات,ويحومون حول كل شيء ولا يقتربون من هذا المحظور المشين.وكان كل ذاك النشاط السياسي والديبلوماسي المحموم يجري دون أن يكون له أي حصة فيه ,وكانت الزيارات المكوكية,واللقاءات الثنائية,والاجتماعات الدورية ,والمؤتمرات السنوية,والخلوات السرية تستثنيه ,ولا تعنيه, ولا تقدم له أي أمل بغد أفضل منير ,وكانت كل البيانات والتصريحات ,وتحليلات المبشرين بجنة الأنظمة لا تشير إليه لا من قريب أو من بعيد عملا بالحديث الشريف لإنه رجس من عمل المتآمرين الشياطين فـ"كلبجوه" أيها الجنرالات والسياسيين والعساكر الأمنيين.وكانت كل المشاريع الاقتصادية تعني شيئا واحدا له ,وهو توزيع المغانم والثروةالوطنية على المحظيات والمحظيين ,ولم تقدم له العيش الكريم, ولا الرفاه ,ولا البنين.
الغائب الأكبر الشعب الصامت العظيم سيبقى هو الغائب الأكبر,وستبقى الأوطان أيضا هي هي الغائب الكبرى ,والعاجزة عن اللحاق بهندوراس ,وبورما ,وبنين ,ومادامت الشعوب ساقطة من حساب سياسييها ,ولا تخطر لهم على بال إلأ في الملمات .ولن يجدي هذا الاستدعاء على عجل كما يفعل مأمور المحكمة بالعتاة من المتهمين ,ولن تنفع محاولات إشراكها على عجل في تقرير المصير عبر مسيرات استعراضية في شوارع الوطن,ناهيك أن تكون قادرة على الإتيان بأية حركة أمام جبروت القوة الأرعن ,وإلى أن يتم تأهيلها مرة أخرى,وعودتها للحالة الطبيعية, وإطلاقها على أرض السباق من جديد ,ربما سيكون كل شيء قد فات تماما ,وعند ذاك على الدنيا السلام بشكل شبه أكيد.
 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com