|
وجهة نظر: بعد الاستفتاء وقبل الانتخابات [ 1 ـ 2 ] عزيز الحاج بعض الملاحظات: أولا: مغزى الاستفتاء: الآن وقد تم الإعلان رسميا عن قبل الدستور الدائم باستفتاء عام، لا بد من التأكيد على وجوب احترامه دون أن يعني ذلك الاتفاق مع مضامينه المتناقضة! ولابد لمن صوتوا ب"لا" أن يحترموا موقف الأكثرية وأن يتصرفوا تجاه القضية وسائر خطوات العملية السياسية بأساليب سلمية والمجال واسع جدا لمختلف الأساليب السلمية وعليهم معارضة الإرهاب بحزم وإعلان رفض الإرهابيين، بشقيهم الصدامي والزرقاوي. ويبقى أن هناك إشكالية قانونية حول مواد الدستور المؤقت أثارتها الأطراف الرافضة وتخص تفسير معنى "أكثرية الثلثين في ثلاث محافظات أو أكثر." هذه الإشكالية الناجمة عن عدم دقة الصياغة كان يجب طرحها قبل اليوم وليس بعد الاستفتاء خصوصا وإن الرئيس العراقي كان قد صرح قبل أسبوعين بأن الرافضين لن يحصلوا على ثليثي محافظة نينوى. أعتقد أنه كان يجب أن تكون الصياغة هكذا" ثلثي الأصوات في كل من ثلاث محافظات" وليس "ثلثي أصوات المصوتين في ثلاث محافظات" مما قد يفسر بمجموع أصوات ثلاث محافظات. أقول رغم هذه المعضلة التي تفجرت بعد الاستفتاء مما أفقدها الكثير من الوجاهة فإن نتائج الاستفتاء يجب احترامها بوصفها إقرارا رسميا بالدستور.
ثانيا ـ مواقف متباينة: إن مواقف القوى والأطراف السياسية التي أيدت الدستور ليست واحدة، فمنهم المتحفظون على بنود أساسية فيه ولكنهم يأملون بتعديلات ديمقراطية وعلمانية بعد الانتخابات القادمة. أما الرافضون فلم ينطلقوا من حسابات الديمقراطية والعلمانية بل على العكس، كانوا يطالبون بتقوية البنود الإسلامية في الدستور، ولم يعترضوا على إخضاع المرأة لأحكام الشريعة، ولكن الشريعة بموجب أي مذهب ! ومعلوم أن الإسلام السياسي بمذهبيه يؤمن بقيام نظام إسلامي كل على طريقته، والطرفان هما في الموقف من المرأة ذكوريان ومتعسفان، والمرأة هنا وهناك ليست غير وسيلة إشباع للغريزة أو عاهة ومثيرة شهوات ويجب حجبها وفرض قيود العصور المظلمة عليها، كما في إيران والسودان وفي طالبان أمس، وهذا مناف لأبسط حقوق الإنسان. ولذلك أيضا فالأحزاب الإسلامية جميعا لا يمكن أن تكون حقا ديمقراطية ومهما رفعت من شعارات مرحلية.
ثالثا ـ العبرة في الممارسة والتطبيق: إن الدساتير على أهميتها الاستثنائية كأم القوانين ومرشد مسيرة المجتمع، تصبح، وحتى أكثرها تقدما، نصا ملقى على الرف ماام يكن المكلفون بالسهر عليه وضمان تطبيقه هم أنفسهم مؤمنين بالقيم والمبادئ الديمقراطية ويمارسونها في العمل السياسي اليومي. وفي العراق اليوم فإن ما جرى ويجري منذ سقوط نظام البعث من جانب الأحزاب والتنظيمات السياسية الإسلامية هو مخالف لأبسط مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا موضوع كتب عنه ونشر الكثير والكثير، سواء ما يجري في البصرة والجنوب أو في مدينة الثورة ببغداد، من ممارسات اضطهاد الأقليات الدينية، وتحويل الحياة اليومية لمناحات دائمة، وملاحقة الحلاقين، وضرب لابسي الجينس، وغلق محلات حلاقة النساء، وفرض الحجاب على النساء اللواتي لا يرغبن فيه وبحيث نجد في بغداد مناطق محظورة على السافرات، وتحريم معالجة الطبيب للمرأة المريضة، وتحريم الموسيقى والغناء والسينما، وعمليات الخطف والقتل اليومية لخصوم الأحزاب الشيعية وقتل وملاحقة ضباط الطيران المشاركين في الحرب مع إيران، وغير ذلك من ممارسات رهيبة تفند كل ادعاء بالحرص على أبسط القيم الديمقراطية وذلك ولو ملئوا الدستور بالحديث عن الحقوق والحريات! وكل ذلك بعلم وزارة الداخلية وزعماء الأحزاب الشيعية الحاكمة. إنهل تطبيق للإسلام السياسي المتخلف مثلما وجدنا تطبيقات متشسابهة في ولاية الزرقاوي في كل من الفلوجة وحديثة، وإذ كانوا يفرضون حتى أنماط اللبس على المواطنين.
رابعا: بين النقاش البناء ولغة الاتهام والمهاترة: بودي قبل مناقشة صلب موضوع الاستفتاء والدستور ومستلزمات الانتخابات القادمة بحسب اجتهادي، إعادة تأكيد النقاط التالية التي سبق لي أن أكدت مرارا عليها كما أكد مثقفون غيري: إن التهرب من المناقشات الموضوعية للأفكار والمواقف لا ينبغي أن يحل محلها أسلوب وعقلية الاتهامات الجاهزة التي لا تناقش المضمون بل تسوق عبارات عامة مليئة بالتهم المجانية. ومن التهم الشائعة اليوم في العراق تهمة "لماذا تهاجمون الشيعة"! كأن النقد لأداء الأحزاب الشيعية او الحكومة يثير فورا لدي البعض أمثال هذه التهم وكأنهم يحتكرون تمثيل جميع شيعة العراق وتاريخهم. والأكثر غرابة أن البعض يوقعون بأسماء مستعارة، بل ومنهم قد يوجد موظفون عراقيون في طهران[؟ ]، يهرعون لاتهام من يتحدث عن التدخل الإيراني المتفاقم في جنوب العراق، وتسلل عناصر مخابراتهم في جميع مفاصل محافظة البصرة بما في ذلك الشرطة والأمن، بكون المتحدث عدو لشيعة العراق! هؤلاء هم الذين يسيئون لسمعة وتاريخ الشيعة بجعلهم تبعا لإيران، وهو خلاف الحال فيما عدا شرائح سياسية ودينية محددة. إن هؤلاء الاتهاميين يقدمون الأحزاب الشيعية كممثل أوحد للشيعة فكل نقد سياسي لبعض مواقفهم هو العداء للشيعة أجمعين. في مقال سابق نوهت بعدد من كبار الشخصيات العراقية في تاريخنا الحديث ممن لم يكونوا إسلاميين، بل ما بين معتزل للسياسة أو مستقل لبرالي أو يساري أو ديمقراطي إصلاحي، ألخ.. تلك الشخصيات الفريدة من مثقفين وأدباء وساسة ورجال دين ورجال أعمال، لعبوا في تاريخنا الحديث أدوارا متميزة، وأذكر منهم على سبيل المثال: علي الوردي، والجواهري، وجعفر أبو التمن، ومحمد رضا الشبيبي، وجعفر الخليلي، وجعفر حمندي، وعبد المهدي المنتفكي، ومحمد صالح بحر العلوم، ومحمد حسين الشبيبي، وسلام عادل الرضوي، ومحمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد أبو الحسن، وسعد صالح، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد سعيد الحبوبي، ومصطفى جواد، وجعفر محمد كريم، وعلي الشرقي، وأحمد الصافي النجفي، وعبد الحسين الأزري، وعلي الشرقي، ومحمد علي اليعقوبي، ومحمد رضا المظفر، وعشرات آخرين من خيرة رجالات العراق. وقد أوردت الأسماء المارة ليس بحسب الاهمية بل بصورة عفوية تامة وربما فاتتني أسماء هامة جدا غيرهم. لم يكن أي من تلك الشخصيات ينتمي لحزب إسلامي، أو يدعو لقيام حكم الشريعة في العراق رغم أن منهم من كانوا من كبار رجال الدين ولكنهم كانوا دعاة إصلاح، ولم يحرموا السينما والموسيقى والشطرنج،. الجميع كانوا يؤمنون بمبدأ المواطنة والوطنية العراقيتين، ويرفضون جميع أشكال الطائفية. ورغم أن قيادات ثورة العشرين كانوا من الشيعة فإنهم طالبوا بالاستقلال وبملك من عائلة الشريف حسين في مكة وهو على غير مذهبهم طبعا، أي لم يطالبوا بعودة الخلافة الإسلامية للعراق. منذ سقوط صدام نشرت المواقع والصحف مئات من مقالات تنقد أطرافا سياسية شيعية على سوء التصرف، ولو أردت لعددت أسماء الكتاب لنرى أن نسبة عالية منهم من المثقفين الشيعة. وقبل أن يكتب عزيز الحاج عن التدخل الإيراني، نشر العديدون من الكتاب والصحفيين العراقيين [ وإيرانيين أيضا]، مقالات وتحليلات وتقارير ضافية مبنية على الوقائع عن الموضوع. هنا أيضا كانت نسبة عالية منهم من المثقفين الشيعة. واليوم نجد بين ساسة العراق المعروفين ممن هم غير منتمين لما يعرف ب"البيت الشيعي" ساسة شيعة كإياد علاوي وإياد جمال الدين وحميد موسى وحسين الصدر، وعشرات آخرين. أما المثقفون البارزون من الديمقراطيين اللبراليين والديمقراطيين اليساريين المستقلين، وغيرهم من دعاة الديمقراطية وحقوق المرأة، وممن انتقدوا مواقف الأطراف السياسية الشيعية منذ 2003 وأدانوا بحزم التدخل الإيراني الكثيف والمتفاقم في الجنوب، فإن عددا كبيرا منهم هم من الشيعة. أجل، لا يجوز لأي كان وحتى للمرجعيات الدينية أن تدعي احتكار أية طائفة أو قومية أو مذهب، لأن كلا من السنة أو الشيعة، او المسيحيين، أو التركمان يتوزعون على خيارات واتجاهات مختلفة وتوجد داخل صفوف كل منهم ألوان شتى. وإذا كان الحزبان الكرديان الرئيسيان يمثلان النسبة العالية من الأكراد، فإن هناك أيضا أحزابا وتيارات سياسية غيرهما وساسة مستقلين، وثمة أيضا أطراف فيلية، والفيلية هم جزء من الأمة الكردية الكبيرة ومتضامنون مع الحزبين الرئيسيين، ولكن لهم خصائصهم المختلفة وظروفهم المتميزة. كما أن الكلدو ـ آشوريين والتركمان موزعون على مذاهب وعلى عدة تنظيمات سياسية، وهكذا.
خامسا: بعض مستلزمات النظام الديمقراطي والتخلف العام للمجتمع العراقي: إن الانتخابات والاستفتاءات لا تشكل لوحدها ديمقراطية حقيقية، بل إن للديمقراطية مواصفات وشروطا ومستلزمات أخرى، بحثها عدد من كتابنا عامي 2003 و2004 ردا على دعاة الانتخابات الفورية بعد شهور قلائل من سقوط النظام السابق. ولا داعي عندي لمعالجة الموضوع هنا إلا بمقدار. كما لن أكرر تأكيدي مرات ومرات بأنني لا أتحدث عن ديمقراطية متكاملة على النمط الغربي في هذه المرحلة العراقية ولا بعد سنوات بعيدة أخرى. إن مقصدي كان ولا يزال أن نخطو خطوة ديمقراطية أخرى مهمة حقا للأمام نحو الديمقراطية المدنية التي وضع الدستور المؤقت لها مبادئ جيدة رغم وجود عيوب في تلك الوثيقة. ولكن ما حدث هو الردة عما تحقق قبل عام ونصف بدل التقدم، حيث يجئ الدستور الدائم متخلفا لأبعد الحدود عن دستورنا قبل عام ونصف. ومن التبريرات لقبول الدستور أن هذا يمثل إرداة معظم العراقيين، بعد أن تراجع مستوى مجتمعنا وشعبنا للوراء عقودا وعقودا من السنين جراء الخراب الكارثي الذي أحدثه النظام الفاشي في جميع الميادين، وخصوصا في العقول والنفوس وإطلاق الغرائز الأولية وشهوات العنف والفساد والأنانية العمياء المنفلتة والميول الطائفية. إن هذا الواقع المؤلم موجود فعلا، وهو سيعرقل تقدم بلادنا ويضع العجلات أمامه. إن ما تؤاخذ عليه النخب السياسية ذات النفوذ الشعبي اليوم هو أنها، بدلا من العمل الصبور والمتدرج والواقعي نحو إصلاح ذلك الخراب، قد شجعت على المزيد منه منذ التاسع من نيسان. لقد اندفعت الأحزاب والتجمعات السياسية الإسلامية لشحن الشارع وإشعال نيران الكراهية والطائفية في الشارع، وانطلقت في ميدان السياسة والحكم ميول وممارسات النهب والفساد حتى على مستويات عليا، وتدافعت تلك الأطراف السياسية بنهم لكسب المواقع ومراكز النفوذ، بينما كان البعثيون منذ أول يوم لسقوط صدام يستغلون الأوضاع لتجميع القوى، ولشحن الشارع السني بطائفية معاكسة، وشرعوا بحملات تخريب واغتيال، والتحقت بهم وحوش الزرقاوي لتنشر الموت وتسفك الدم مدرارا؛ إرهاب وحشي مدعوم سوريا وبأموال خليجية. وبعبارة نجد من جانب نهما للسلطة واحتكارها من جانب الأحزاب الشيعية وما يدعى بالبيت الشيعي، ومن الخلف إيران تلعب لعبها لاستغلال الوضع ومحاولة تمرير مشروعها النووي بدماء العراقيين وبالمزيد من مآسيهم. وهي رغم جميع التكذيبات المنافية للوقائع والوثائق تتدخل تدخلا متعدد الرؤوس بأموالها وسلاحها وعناصر مخابراتها على نطاق الجنوب خاصة. أما من الناحية الأخرى فكابوس الإرهاب الدموي والتدخل السوري الكثيف وسلسلة عمليات التفخيخ والتفجير التي تطال حتى المدارس والمستشفيات والجوامع، والتي صار أغلب ضحاياها من رجال الشرطة والجيش ومن المدنيين، وبوجه خاص المدنيين الشيعة. إن الشارع العراقي بعد سقوط صدام ازداد تخلفا، وانفجرت جميع العيوب والدمامل الكامنة، واندفعت النخب والجماهير الشيعية من منطلقات ودوافع ما لقي الشيعة من ظلم مستمر في عهد صدام، والخوف من تكرار المآسي. لقد أصبح الخوف من عودة الماضي الدموي، وميول التعويض عنه، هي المنطلق وليس هدف بناء نظام جديد موحد، ومسالم، ومدني، لصالح المجموع، كما أن الشارع السني والنخب الناطقة باسمه اندفعوا بمشاعر بالمرارة والغضب لفقدانهم امتيازات أمس. أما الأطراف الكردية فإن القلق على مصالح شعبها، والحرص على مكاسبه، جعلاهم يختارون سياسة التحالف "الاستراتيجي" مع الإسلام السياسي الشيعي بوصفه القوة الأكبر تأثيرا في الوضع الراهن. لقد خدم ذلك التحالف مصالح الأكراد في فترات سابقة، ولكن الاستمرار عليه بعد الانتخابات الماضية جعل الأطراف الكردستانية تضع للخلف مصلحة الديمقراطية لمجموع العراق، وفقا للشعار القديم "الحكم الذاتي [ اليوم الفيدرالية ] لكردستان والديمقراطية للعراق." مؤخرا كتب الأستاذ كنعان مكية في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 18 أكتوبر الحالي، مقالا ورد فيه الحكم الواقعي والمؤلم التالي: " أصبح من النادر اليوم أن نجد أي سياسي ذي وزن داخل العراق يفكر بمستقبل البلد ككل."
فما هو المطلوب اليوم حسب اجتهادي؟ إن المرحلة اليوم وقبل الانتخابات باتت تطالب بإلحاح متزايد ائتلاف جميع القوى والتيارات والعناصر الديمقراطية واللبرالية العلمانية، المؤمنة بمبدأ الوطنية وبالحقوق الكاملة للإنسان، والقوميات والأقليات، وبحقوق المرأة في ظل قانون مدني للأحوال الشخصية كما وضعه الفقيد عبد الكريم قاسم. إن قوى متضامنة كهذه تدخل الانتخابات القادمة متحدة شرط رئيسي لوضع العراقيل أمام شهية تأسيس النظام الإسلامي، الذي هو في خاتمة المطاف لن يكون لصالح الشعب الكردي وجميع الأقليات القومية والدينية، وكم كنت أتمنى لو أن القيادات الكردية هي التي قامت بالمبادرة التي قام بها الدكتور علاوي في المؤتمر المنعقد مؤخرا، لوضع برنامج عمل واقعي ومتقدم لصالح حاضر العراق ومستقبله. صحيح أن النخب لا تستطيع تجاوز المراحل، وتجاهل مستوي الشارع وعواطفه المندفعة بمرارات الماضي الدموي وعواقب خيبة الأمل بكافة المشاريع السياسية المختلفة التي مرت بالعراق الحديث. إن النخب لا تستطيع الانقطاع عن الجماهير، ولكن عليها في الوقت نفسه أن لا تتملق غرائزه وانفعالاته المؤقتة، وأن تعمل بصبر نحو إصلاح الأمور تدريجيا وليس التصرف بما يزيد التخلف كثافة وفداحة، وذلك بحثا عن كسب الأنصار، وجمع الأصوات وبهدف احتلال أكبر ما يمكن من مواقع السلطة والمجتمع ومراكز النفوذ!!.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |