أنتم أعلم بأمور دنياكم ..!
هادي فريد التكريتي
26 تشرين أول 2005
hadifarid@maktoob.com
َ
عندما هاجر النبي محمد من مكة إلى المدينة ، في بداية تأسيس دولته ، رأى أن القوم هناك يقومون بتلقيح نخيلهم ، فأصدر أمره بعدم تلقيح النخيل ، لأن الله يتولى ذلك ، فنادى المنادى بهذا الأمر ، وأمتثل أهل المدينة لهذا الحكم الذي أصدره النبي ، وبعد عدة شهور لاحظ القوم ، وجل عيشهم على ما تحمله النخيل من تمر ، أن النخيل لم تثمر ، وإن نخلهم لهذا الموسم قد \" شاص \" ، فجاءوا النبي محتجين ، على هذا الحكم الذي أفسد عليهم موسمهم من التمر ، فلم يجد النبي ما يقوله لهم سوى \" اذهبوا فأنتم أعلم بأمور دنياكم \" .. هذا الموقف يدلل ، دلالة قاطعة ، من أن فتاوى الدين إذا دخلت حياة الناس ، وشؤون معيشتهم وأمورهم الخاصة ، أفسدتها . وتنظيم حياة المجتمع ، في كل مجالاتها ، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، يقتضي أن يتولاها من لهم الخبرة والكفاءة ، وأصحاب الاختصاص عن علم ويقين ، وليس عن طريق الصح والخطأ ، أو تجريب هذا بدل ذاك ، وبالنتيجة يكون المتضرر من الخطأ هو المواطن ، في أمنه وحياته ومعيشته .
تسلمت مقاليد الحكم عندنا منذ عدة شهور ، قاربت السنة ، حكومة يقودها ائتلاف ديني ـ طائفي ، جل وزرائه من دين وطائفة واحدة، إلا أن انتماءاتهم لموزائيك مرجعيات متعددة ، ولاتجاهات مختلفة الرؤى من هذه الطائفة ، وهذا بحد ذاته إشكالية حكم سلبية ، تجلت في مواقف كثيرة ، تناقض في أهدافها ، وأوجدت حتى صراعا مسلحا داخليا بين مكوناته ، كان الضحية هو المواطن . هذا الوضع جاء نتيجة لعدم انسجام مكونات الحكم فيما بينهم ، وغياب مفهوم المصلحة العامة عن الفهم الطائفي ، عند تشكيل قوام الحكومة ، وعدم الاعتراف بآلية وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، لحل المشاكل التي يعاني منها الشعب العراقي ، فوزير الداخلية مهندس ، ومجال اختصاصه الهندسة والتكنولوجيا ، وليس له علاقة بالمرة بحفظ الأمن ومكافحة الجريمة المستشرية في البلد ، ووزير الثقافة شرطي ، كان يمكن أن يكون وزيرا للداخلية مثلا ، فهذا الفساد في شغل المناصب الوزارية ، هو نتيجة صراع على كراسي المسؤولية ، وهو ما فرضته المحاصصة الطائفية والعنصرية ، وشللية الانتماء لهذا الحزب أو تلك الكتلة ، دون أن تراعى فيه مصلحة البلد أو المواطن ، كما لو أن الحكم الحالي ، أراد أن يعود بنا لحكم يشبه حكم البعث ، عندما وضع الثقافة بيد جهلة وأميين ، والدفاع والداخلية بيد عريف أو سائق دراجة ، مع الاحترام لأصحاب هذه المهن . فهذا الارتباك وعدم التجانس في إسناد المهام الرسمية ، هو ما زاد في حالة التردي للوضع الأمني والمعاشي لحياة المواطنين ، بحيث لم تستطع هذه الحكومة ، منذ أن جاءت إلى السلطة ، وحتى اللحظة ، لم تكن قادرة من حل جل المشاكل التي عانى ، ولا زال يعاني ، منها الشعب العراقي ، بل عمقتها ، نتيجة لتجاهلها للأسباب الحقيقة الكامنة وراء هذا الفشل ، وعدم رغبتها البدء في حلول جذرية وجدية وواقعية للمشاكل ، مما أفقد المواطن البسيط ثقته بمثل هذه الحكومة ، فبدلا من الحل الفاعل والمجدي ، تلوذ الحكومة بالمرجعية وتتمترس خلف الدين والطائفية لتغطي قصورها وإخفاقها في تنفيذ برنامجها الوزاري ، دون أي اهتمام بما يجب ، وما ينبغي لها ، أن تقدمه للمواطن الذي تحدى الإرهاب ، من قتل وتفجير ، ليدلي بصوته للمنادين بمظلوميته ، فإذا به كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فبدلا من التأسيس لحكم بديل عادل ، يرفع الاستغلال والظلم والحيف عنه ، وينصفه في حريته دون انتقاص منها ، أو دون تمييز بين رجل وامرأة ، في الحقوق والواجبات ، نجد رجال الحكم والمسؤولين عنه ، من أعضاء في الجمعية الوطنية ، ومن وزراء ورؤساء دوائر ومؤسسات ، يرسٍخون الظلم ويمارسونه عليه ، ويزيدون ، بتجاهل معاناته اليومية ، وعدم تحقيق مطاليبه الحياتية ، بمساهمة هؤلاء المسؤولين في سرقة ثروة البلد والمال العام ، المرصود لتحسين حياة المواطن ، ويتناسون تضحياته عندما صوت لهم وجاء بهم وأجلسهم على سدة القرار ، لتكون قراراتهم تشريعات لقوانين ، تضمن دوام مصالحهم الشخصية ، دون وجه حق شرعي ، بتخصيص رواتب مجزية ، والتمتع بحقوق لا حق لهم فيها ، وما كانوا يحلمون بها ، نتيجة شيوع الفساد والثراء غير المشروع ، والتستر على القائمين به ، وابتلاع أراضٍ وأملاك وعقارات الدولة ، والاستيلاء ليس على قصور أركان النظام السابق فقط ، بل وحتى أملاك المواطنين المصادرة من قبل النظام السابق ، نتيجة للتهجير أو المواقف السياسية ، لتسجل باسمائهم وأسماء زوجاتهم ، فهل من أجل هذا كانت تضحيات الشعب العراقي .؟ وهل سيشارك المواطن العادي ، بتكرار الخطأ الذي ارتكبه في التصويت ، لمثل هذه القوى الطائفية ، التي لم تحقق له استقرارا وأمنا في حياته ؟ تجربة هذه الحقبة من الحكم الطائفي ـ العنصري المتعدد الولاءات كانت مرة وقاسية ، على عموم الشعب ، وشكلت خيبة أمل لمرجعية السيد آية الله علي السيستاني ، كما بقية المرجعيات الأخرى ،التي آزرت ودعمت قوى الائتلاف الطائفي في الانتخابات السابقة ، مما أفرز موقفا جريئا وجديدا للمرجعيات ، وخصوصا مرجعية آية الله السيستاني ، حسبما تناقلته وسائل الإعلام ، بعدم منحه الثقة والتأييد لأي من القوائم الطائفية المتنافسه مع القوى الأخرى ، وتوجيه مكاتب وخطباء الجمعة لممثلياته في المحافظات بالتزام موقف الحياد بين الكتل المتنافسة ، وعدم تكرار الخطأ الذي ألقى بظلاله على مصداقية حياد المرجعية ، وكونها لجميع المواطنين ، وعدم السماح بحصوله مرة أخرى . إن هذا الموقف يشكل نقلة نوعية لمرجعية السيد علي السيستاني ، إن تحققت صحته ، والتزمت به المرجعية حتى النهاية ، بوقوفها على الحياد دون دعم أو انحياز لأية جهة كانت من أحزاب الإسلام الطائفي ـ السياسي ، والإيمان بحق المواطن وحريته في أن يختار الجهة التي تمثله وفق البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعتقد فيه تحقيق أمنه وحريته والعيش بأمن وسلام ، بعيدا عن تدخل الدين أو المذهب أو الطائفة ، وما كان لهذا الموقف أن يرى النور ، لو لم يكن السيد آية الله السيستاني ، قد رأى وسمع وتلمس الاعتداءات الظالمة ، والقهر الذي وقع على المواطنين ، في منا طق ومدن كثيرة من العراق ، وخصوصا في المناطق التي تتميز بحكم وأغلبية قائمة الائتلاف التي دعمها وباركها السيد السيستاني ، فيما مضى ، فالقتل والتهديد به ، وتهجير المواطنين ، والاستيلاء على ممتلكاتهم ، مسلمين ومسيحيين وصابئة ، إضافة لطوائف أخرى ، والاعتداء على الحريات الشخصية للمواطنين ، فيما يتعلق بالمظهر الخارجي من ملبس وحلاقة شعر ، وغلق صالونات التجميل والحلاقة النسائية ، وفرض الحجاب بالقوة على المرأة المسلمة وغير المسلمة ، وانتهاكات أخرى كثيرة ، كالاعتقال والسطو والسرقة والتهريب وترويج المخدرات بين الناشئة ، كل هذا قامت به ، ميليشيات الأحزاب الطائفية ، تحت علم وتوجيه مسؤولي الحكومة التي باركتها المرجعيات سابقا . هذه الجرائم قد تحققت ، بفضل سياسة الحكومة الطائفية ، المؤيدة لإطلاق يد المليشيات في تنفيذ مخطط طائفي لصالح قوى محلية وأجنبية ، مما أبعدها عن تحقيق مطالب المواطن اليومية ، وعدم معالجتها لهمومه التي يشكو منها ، مما انعكس سلبا ليس فقط على مرجعية آية الله السيستاني ، بل على كل المرجعيات المذهبية ، وحقيقة دعاوى التزامها ، الحق ، جانب المواطنين . الموقف الجديد للمرجعية قد ثمنته ، الكثير من القوى السياسية العراقية ، الوطنية والديموقراطية، وتأمل ، هذه القوى ، أن يعمق آية الله السيد علي السيستاني وبقية المراجع ، مواقفهم هذه بفتوى صريحة وواضحة تلتزم بها مكاتب المرجعيات ، والوكلاء ومقلدوهم في سائر المحافظات ، تبعد الدين ، ونبل أهدافه وقيمه الروحية ، عن المناورات السياسية وأساليبها المناقضة لمفاهيم القداسة وقيم التسامح والتآخي ، التي تدعو لها مبادئ الدين بين المواطنين ، والنأي عنها بمن يشينها ويسئ إليها عملا بالحديث النبوى \" أنتم أعلم بأمور دنياكم \"، وبدون هذا تبقى الشكوك تساور المخلصين والوطنيين ،من عدم جدية المرجعيات في معالجة فساد و تردي الأوضاع التي تمارس باسمهم ، لن يكون الخاسر فيها ، فقط ، جماهير الغالبية العظمى من الشعب العراقي ، بل المرجعيات نفسها ستفقد سمعتها ، وتأثيرها الروحي على مقلديها .
العودة الى الصفحة الرئيسية