|
رد مهني على مذكرة خبراء النفط التي تعترض على الدستور حمزة الجواهري مهندس نفط متخصص بإنتاج وتطوير حقول النفط والغاز
في الخامس والعشرين من شهر اكتوبر الماضي أصدرت مجموعة مرموقة من خبراء النفط، وهم فعلا كذلك، مذكرة فيها اعتراض على ما ورد في مسودة الدستور بما يتعلق بتوزيع الثروة النفطية. المذكرة كانت متزامنة مع زيارة للأخ ثامر الغضبان وزير النفط السابق إلى صحيفة الصباح، ليدلي هو الآخر بتصريحات حول نفس الموضوع تتفق إلى حد بعيد مع مضمون المذكرة، ولا ندري ما إذا كان الغضبان هو الذي حمل بيده المذكرة التي كتبها الخبراء أم كانت المسألة مجرد صدفة؟ حيث إن معظمهم من أصدقائه الشخصيين، أو ممن يتفقون معه في التوجه السياسي، أيا كانت الإجابة فإن الأساتذة الذين كتبوا المذكرة أشهر من نار على علم في مجال الصناعة النفطية وإن آراء العديد منهم معروفة مسبقا بما يتعلق بالعملية السياسية وطبيعة الإصطفافات والتضارب في وجهات النظر المطروحة على الساحة السياسية في مختلف الأمور، والنفط منها في الصميم. عموما وبكل بساطة ما أردت أن أقوله أن المسألة ليست ذات طابع مهني صرف كما أراد كتاب الوثيقة أن يصفوه لمن يقرأها، وإنما لها أبعاد سياسية، ربما أبعد من الجوانب المهنية بكثير. ولكن مع ذلك سوف لن أركز على هذا الجانب من الموضوع وأناقش محتويات المذكرة بشكل مهني، عسى أن تتضح الصورة لمن لا أهداف سياسية له في هذا المجال. سوف أحاول مناقشة فقرات المذكرة حسب ترتيبها التي وردت به في المذكرة: يرد في النقطة رقم واحد "ان الكل (الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات المنتجة) يشترك في إدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية. والكل أيضاً يشترك في رسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز. وهذا التداخل والازدواجية ليس صحيحاً من الناحية الإدارية والتشريعية، ويكون من المصلحة المشتركة أن يتم توزيع المهمات والأعمال على نحو يجعل المركز مختصاً بالسياسات الاستراتيجية، والأقاليم تختص بإدارة العمليات النفطية" (انتهى النص). كأني بالمذكرة تشير إلى نوع من الفوضى الدستورية، وهذا صحيح إلى حد بعيد فيما لو ترك الموضوع لكل من يريد أن يفسر الفقرة الدستورية على هواه، لكن المذكرة قد تغافلت، ربما عن عمد، عما ورد في النص الدستوري "وينظم ذلك بقانون"؟ لأن الحديث عن المشاركة بين المركز والأقاليم في إدارة العملية الإنتاجية ووضع السياسات الإستراتيجية للتطوير دون أن يكون هناك قانون ينظم هذه العملية، يعتبر بالفعل نوعا من الفوضى، فالقانون هو الذي يضع الحدود لصلاحيات ومسؤوليات كل جهة حول هذه الأمور، وهو ما يجب أن يضعه متخصصون في الصناعة النفطية، ومن جوانبها الفنية والاقتصادية، وحتى السياسية، أما ما اقترحته المذكرة وهو أن يترك أمر السياسات الاستراتيجية للمركز وتتولى الأقاليم إدارة العملية الإنتاجية، أعتقد، إن هذا النوع من تنظيم العلاقة، سوف يؤدي إلى الكثير من الفوضى، لأن أصلا العلاقة بين الإقليم والمركز تشكلت على أساس ديناميكي وليس جامد، فما هو استراتيجي للمركز هو أيضا فيه جوانب استراتيجية للإقليم، وكذا الأمر في إدارة العملية الإنتاجية، لأن الإقليم، على سبيل المثال وليس الحصر، لا يمتلك دائما كافة المقومات لإتمام العملية الإنتاجية من المكمن النفطي وحتى ميناء التصدير، فهي بحاجة إلى بنى تحتية قد لا تكون متوفرة، أو يستحيل توفرها فيما لو كان موقع الإقليم بعيدا عن المصبات المائية مثلا، وليس منطقيا أن يكون للإقليم بناه التحتية المتكاملة مهما تطورت الصناعة النفطية فيه، لذا فإن مبدأ المشاركة أو تولي المسؤولية من قبل المركز بما يتعلق بتكاملية البنى التحتية قد يكون أمرا ضروريا لا محيد عنه لأسباب سياسية واقتصادية ولوجستية مختلفة. هذا فضلا عن أمور أخرى مهمة كالتسويق الذي يجب أن يبقى مركزيا ويخضع لسياسات الدولة المركزية والتزاماتها الدولية، ووضع الضوابط والشروط الاستثمارية والمكاييل والمقاييس وما يتعلق بحماية البيئة والسلامة العامة، وحتى تطوير القوى البشرية، يمكن أن تكون مهمة مركزية بالرغم من أنها يجب أن تكون مهمة أساسية للإقليم. هذه الجوانب في مجملها يجب أن تكون تضامنية بين المركز والأقاليم، لأنها تكتسب أهميتها بالنسبة للطرفين على أساس ديناميكية العلاقة وليس جمودها بالتقسيم كما تقترح المذكرة، فهي مهمات تضامنية يمكن توزيعها وتقنينها وفق قانون، بل منظومة قوانين تنظم العلاقات في الصناعة النفطية بشكل عام في البلد. النقطة الثانية من المذكرة تنص على الآتي "تشير المسودة إلى أن إدارة الحقول الجديدة ستكون من اختصاص الأقاليم والمحافظات المنتجة، وعلاقة الحكومة الاتحادية بعمليات الإنتاج ستكون موقتة ومرتبطة بعمر الحقول الحالية. وهذا يعني انهُ على المدى البعيد سيكون دور الحكومة المركزية مقتصراً على المشاركة في رسم السياسات الاستراتيجية لقطاع النفط وهو دور هامشي مقارنة بدور الأقاليم" (ينتهي النص). على افتراض أن المركز يقوم فقط بوضع السياسات الاستراتيجية، وهذا غير صحيح، لأن مهماته أوسع بكثير جدا من هذه المهمة كما أسلفنا، يبقى الاعتراض قائما حول محدودية علاقة المركز المؤقتة بعملية إدارة الإنتاج، لأنها مرتبطة بعمر الحقول الحالية، وهنا بودي أن أسأل السادة عن العمر المتوقع للحقول المنتجة حاليا، وهم العارفون، بل والخبراء في هذا المجال، فإن عمر هذه الحقول يزيد على خمسون عاما من الآن في أقل تقدير، وهذا زمن طويل بكل المقاييس، هذا إضافة إلى أن تطور التكنلوجيا في المستقبل واعد جدا بما يسمح بإطالة عمرها أكثر بكثير من هذه الفترة وذلك من خلال زيادة نسبة المستخرج من النفط، وهذا يعني فترة زمنية أخرى تأتي بعد الخمسين عاما. السؤال هل سيبقى الدستور العراقي والقوانين على ما هي عليه اليوم خلال فترة خمسين عام القادمة؟ وهل الأجيال القادمة ستكون عقيمة ولا تنجب رجال يهتمون بما سوف يأتي؟ كل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن ما جلب انتباهي حقا هو الخلط الواضح بين المفاهيم، وهذا عجيب على متخصصين!! مثلا يخلطون فيما بين مفهوم "العملية الإنتاجية" ومفهوم "إدارة العملية الإنتاجية"! لأن الفرق كبير جدا فيما بينهما، حيث أن إدارة العملية الإنتاجية هنا مسؤولية المالك فقط، أما مسؤولية العمليات الإنتاجية بكل مراحلها، يقوم بها متعاقدين، سواء كانوا موظفين أو كيانات تابعيين للمالك ينظمون العمل ويتعاقدون مع مقاولين متخصصين، ليقوموا بالأعمال المتنوعة، ويتقاضون أتعابهم مقابل ما قدموه من عمل وفق عقود عمل مختلفة ومتنوعة أيضا. وهذا النوع من العلاقات الإنتاجية يعني أن الإقليم يحصد في نهاية المطاف ثمار العملية الإنتاجية، لأنه سوف يستحوذ على حصة السد من كلفة الإنتاج، وهذا بحد ذاته يعطي لمبدأ توزيع الثروة بعد آخر غير القيمة الحقيقية لبرميل النفط المنتج بحد ذاته، وهذا الجانب ربما يأخذ من الأهمية أكبر من ملكية النفط. أما ما ورد في نص النقطة الثالثة من المذكرة فهو بحق ضوضاء لا تليق بأساتذة يشار لهم بالبنان في مجال عملهم، فهي تنص على الآتي: "إن هذا التوزيع للمهمات والواجبات سيؤدي إلى تشتيت القطاع النفطي الذي يستفيد بطبيعتهِ من دمج الجهود الاقتصادية والبشرية لتطوير الصناعة النفطية، وسيجعل مشروع إعادة تشكيل شركة النفط الوطنية غير مجد. كما انه سيؤدي إلى تأخير وعرقلة النشاط التشريعي والمؤسساتي اللازم للنهوض بالقطاع النفطي. إذ سيكون من الصعب وضع قانون نفطي شامل ونظم وضوابط وتعليمات تكون سارية لكل العراق، ويتم بموجبها التعاقد مع القطاع الخاص والشركات العالمية وغيرها" (انتهى النص). المذكرة إذا تدعوا للعودة للسياسة النفطية القديمة والعقيمة التي تجاوزها الزمن بكل المقاييس، ففي الوقت الحالي لو اتسع نطاق عمل شركة ما، فإنها سرعان ما تقوم بفصل بعض أجزاء الشركة لتكون مستقلة عن الشركة الأم من الناحية المالية ككيان له خصوصيته وإن يبقى مرتبطا بالشركة الأم من نواحي كثيرة، أهمها سياسيات الشركة وبرامجها التطويرية وأهداف كل جهة من جهاتها التي يكون عليها الالتزام بها وتحقيقها، فما بالك والعراق والواسع والذي يحتوي على أعلى احتياطي نفطي في العالم؟ لقد أضحى من المعروف في علم الإدارة الحديثة إن عدد بسيطا جدا من المتخصصين يمكنهم إدارة العمليات الإنتاجية في الأقاليم الواسعة، ويترك الباقي لمساهمة القطاع الخاص بتقديم خدماته لهذه الصناعة وكذا إشراك الشركات التخصصية العالمية في العملية، وهذا أيضا سوف يساهم بشكل فاعل بتطوير القوى البشرية العراقية من خلال إلزام الشركات عالية التخصص والمتخصصة الأخرى بتطوير كوادر عراقية، وهذا ما يجب أن يهتم به قانون الاستثمار الذي تضعه الحكومة المركزية وتلتزم بتطبيق بنوده الأقاليم والشركات التي تقوم بالتطوير أو تنفذ جانبا من المعلية الإنتاجية. إن العودة للسياسة المركزية بإدارة كامل الصناعة النفطية والقيام بالعملية الإنتاجية أيضا بشكل مباشر، هذا يعتبر إجحافا بحق مفاهيم الإدارة الحديثة، وأثبت في أكثر من بلد عدم جدواه وفشله المطلق، لكن رغبة بعض الجهات السياسية بالعودة للنظام المركزي مازالت قوية وتراود الكثير من أبناء العراق، حيث من خلال التحكم المركزي بعائدات النفط يعطي المركز القدرة على ابتزاز الولاء وربما شراء الولاء من خلال توزيع الثروة على أسس غير عادلة، هذا إذا كان هناك فعلا توزيعا لهذه الثروة على الأقاليم. نعم لهم كامل الحق بطرح آرائهم، لكن ما لم أستطع أن افهمه هو أن المذكرة اعتبرت أنه سيكون من الصعب وضع قانون نفطي شامل ونظم وضوابط وتعليمات تكون سارية لكل العراق، ويتم بموجبها التعاقد مع القطاع الخاص والشركات العالمية وغيرها! وهذا أمر عجيب! لأن وضع قوانين تنظم هذه العملية أمر في غاية السهولة! وهو النظام المعمول به في العالم أجمع، لماذا العراق استثناء من هذه الحالة ولا يمكنه وضع قوانين تنظم التعاقدات!؟!؟ في حين أن أول قانون وضع لإدارة المجتمع عموما كان عراقيا، والقانون الثاني كان عراقيا أيضا، ونأتي في القرن الحادي والعشرين ونقول لا نستطيع وضع قانون ينظم جانبا واحدا من حياة المجتمع! هذا أمر بعيد عن المنطق ولا يمكن قبوله بأي حال. بودي أن أذكر السادة بأن الدستور قد أصبح أمرا واقعا بعد أن وافق عليه أربعة أخماس الشعب، وعليهم أن يفكروا بشكل عملي بما يساهم بنهوض البلد من الهوة التي أسقطه بها النظام المقبور، لا أن يضعوا العصي في العجلات، بدعوى أن الله من وراء القصد. وما هو أغرب مما تقدم نقرأه في النقطة الرابعة من المذكرة والتي تنص على الآتي، "نتيجة لنقل الصلاحيات إلى الأقاليم، فإن الموقف التفاوضي العراقي مع الدول والشركات سيضعف لأن الأقاليم والمحافظات ستكون الشريك الأصغر مقارنة بسلطة مركزية تتحكم بكامل الاحتياط النفطي الموجود في البلاد، وتمتلك الخبرة والقابليات التفاوضية والإدارية والفنية اللازمة لذلك" (ينتهي النص). أود أن اذكر السادة الذين كتبوا المذكرة أن دولة الكويت الجارة والشقيقة للعراق يوم بدأت فيها الصناعة النفطية لم تكن تمتلك من المقومات ما تمتلكه اليوم أقاليم العراق من طاقات بشرية وإمكانيات مادية وبنى تحتية، ولا تمتلك الكويت آن ذاك عشر السكان في البصرة مثلا، لكنها استطاعت أن تطور صناعتها النفطية بشكل تفخر به أمام العالم كمنتج رئيسي للنفط والمشتقات في العالم، ويتعامل كادرها النفطي اليوم مع أرقى التكنولوجيا المتوفرة في السوق، وكذا الأمر بالنسبة لدولة الإمارات وقطر، بل وجميع دول الخليج العربي التي تحلق اليوم عاليا جدا في سماء الحضارة والتقدم، ليس في مجال النفط وحسب، بل في جميع المجالات. كل هذا من جانب ومن جانب آخر، إن العلاقة بين المركز والأقاليم في العراق مازالت لم تنظم بقوانين كما نص الدستور، فهي علاقة وصاية حاليا وليست علاقة ند لند، ففي الوقت الذي نجد فيه أن مفردة "حاليا" التي وردت في الدستور والتي أثارت حفيظة المتقولين من نفس التيار، هي التي تحل الإشكال وتعطي المركز حق الوصاية حاليا على الإقليم حتى يشتد ساعده ويستطيع القيام بكامل مهماته لوحده ليكون بمستوى الند للمركز يوما ما قريب. ونقرأ أيضا في المذكرة النقطة الخامسة ما يلي "كما ان هذا الغموض والتداخل في الصلاحيات والواجبات قد يؤدي إلى عرقلة الاستثمار الأجنبي والتعاقد مع مؤسسات القطاع الخاص العراقي، خصوصاً في حال نشوء خلاف بين الأطراف المعنية أو كون الحقول مشـتركة بين اكثر من إقليم أو محافظة" (ينتهي النص). هذه النقطة كسابقتها يجب أن ينظمها القانون، أو القوانين، أما مسألة الحقول المشتركة بين الأقاليم، فما الذي يمكن أن يحدث إذا كانت الحقول مشتركة؟ إذا عرفنا أن هناك مئات الحقول المشتركة بين دول العالم المتجاورة، ويتم الآن تقاسمها بشكل حضاري، فما بالك بإقليمين في بلد يتشارك أبناءه بملكية كامل النفط؟ وإذا كان صعبا علينا تقاسم الحقول المشتركة بين أقاليم عراقية فماذا سنفعل بالحقول العراقية المشتركة مع إيران والتي يصل عددها إلى ستة أو أكثر في حال اكتمال المسح الجيوفيزيائي؟ ومع الكويت معظم حقولنا الحدودية مشتركة معها؟ وكذا الأمر مع السعودية والأردن وسوريا؟! نتساءل مرة أخرى، ما القصد من إثارة مثل هذه الشكوك والزوابع في حين أن العراق لم يبدأ بعد، فلم يوضع أي قانون ينظم هذه الأمور ولم يتم لحد الآن تطوير أي حقل نفطي جديد؟! أما النقطة السادسة، وهي برأيي المتواضع مربط الفرس، حيث يقول السادة فيها "وبالتالي فإن غموض مواد الدستور وتداخلها وسوء توزيع الصلاحيات والواجبات بين المركز والأطراف، سيؤدي إلى تهديد لكامل موازنة الدولة والأقاليم على حد سواء، مما يضعف قدرة المجالس النيابية والمجتمع على مساءلة السلطات التنفيذية، ويفتح الباب أمام إمكان التلاعب وإساءة استخدام الموارد. كما سيؤدي إلى إضعاف المركز للقيام بالمهمات المناطة به بحسب فقرات الباب الثاني من مسودة الدستور، كالضمان الاجتماعي والصحي والتعليم والدفاع والأمن والعلاقات الخارجية وغيرها" (ينتهي النص). هذه النقطة بالذات تفضح النوايا الحقيقية من وراء إصدار هذه الوثيقة، وليس ""الله"" كما يدعي مصدروها عندما ذيلوها بعبارة "والله من وراء القصد" فهي اعتراض على النظام الفدرالي برمته، وتعني عودا للنظام المركزي الذي انتهينا منه ولم يعد أمره موضوع للنقاش، لذا، من جانبي، سوف ألتزم بهذا الأمر ولم أناقش أمرا أصبح مفروغا منه.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |