يطل العيد علينا مثل كل سنة, فالأجواء مكفهرة سوداء,وملبدة بغيوم الحرب ,والقرارات الدولية,ولجان للتحقيق ,وأخرى للتفتيش,وثالثة للتمحيص,وعاشرة للتنبيش عن الأحلام وفحص الدماء عن فيرسات لاتروق لصناع القرار .غرباء ,وتتار,ومغول عصر جديد يجوبون المنطقة ويقلبون أحجارها حجرة حجرة بحثا عن أدلة وبراهين تثبت تورط هذا أو ذاك في عمليات لصوصية ,وتشليح ,وتجاوزات ,و قتل ,وسبي,وذبح تطال الآمنين في ركن كئيب من العالم ارتبط تاريخه دوما بالدم الرخيص المستباح.
والعيد في هذه الأيام الكئيبة ليس كالأعياد التي عشناها حين كنا صغارا ولم يكن وقتها لا ميليس, ولا البعث,ولا لجان التحقيق,ولا بوش,ولا الشبيحة أو المخابرات,ولا المتحدثين الستراتيجيين,أوالناطقين الرسميين, ولا حتى الديبلوماسيين الفاشلين ,ولا المهربين,ولا العرفاء الأميين من كتبة التقاريرالذين نغصوا حياتنا بثقافة النميمة والتقرير,ولا الجباة الإنكشاريين من الموظفين وعسكر السلاطين,أو المتحزبين الفاشيين,ولم يكن كل هذا الموت والدمار والتهديد والوعيد بالقتل والتكفير ,والتخوين.كان عالما عذريا بسيطا يبدو فيه على الجميع ملامح الهناء والسعادة التي انقلبت عبسا و تكشير ,وعقدة مزمنة على الجبين,وامتلأت القلوب بالحقد والكراهية,والسجون بالمظاليم.فكيف سيكون عيدا وهموم الموت ,ونذر الحرب والتخريب تحوم فوق الرؤوس .وتتطلع نحو السماء لتستدرك من أين سيأتيك الموت ,والأجل المحتوم,وتنظر للأرض من تحتك متى ستميد وتقلب الجدران والسقوف على رأسك ورأس من حولك من العالمين,وتنظر في العيون لترى حجم الغيظ والحزن فيها وتقول متى سينفجر كل هذا ويتحول إلى براكين,وترنو بنظرك إلى الشارع لترى الفقراء والمواطنين التائهين الهائمين الذين أقض مضجعهم الفقر واللصوص وجعلهم هياكل بشرية بلا مشاعر وأحاسيس,وأشباه آدميين يطاردون اللقمة المخزية المغمسة بالعار,وانتظار الدوريات والمخبرين في أوطان صارت لا تنتج زنبقا أو ياسمين.وتتأمل عيون الأطفال وتسأل أي مستقبل ينتظر هذا الجيل المنحوس في بلاد تغفو على محيطات من البراكين؟
وتعبر بخاطرك نحو البعيد إلى ذلك الزمن الطفولي البعيد ,وتتذكر صورة تلك الفتاة البريئة صاحبة العينين السندسيتين ,وسنابل القمح الذهبية التي كانت تتمايل,وتسترسل فوق ذاك الجسد النحيل,وتسأل ماذا حل بـملاكي الجميل "دلال.ن" وأين هي الآن في هذا الأوار اللعين؟وأين ذهبت تلك اللحظات الرائعة من اللهو البريء على العشب الغضيض؟وأي ذل تتجرعه المسكينة في هذا الواقع البائس المهين؟أو لربما كان حظها طيبا واقترنت بأحد التجار الشاطرين.وتنظر لتلك الدرب الترابية التي كان يتسلل من جنباتها يوما ما نبع ,وغدير لماء رقراق ,وعذب سلسبيل ,جففها الدهر الخبيث ورؤساء البلديات المرتشين ,وصارت إسفلتا أسودا تمر عليها سيارات الشبح بمسؤوليها المناضلين ,والمتشبحين ,واللصوص المدججيين بآلات الموت الرهيب ,والقراصنة الذين يسرقون الكحل من العين .أين ذهب ,وولى كل ذلك الزمن الطاهر الجميل؟
أي خير هذا الذي ينتظرنا حيث الأفق مسدودا ,والظلام الكئيب يخيم فوق الجميع؟وتغص الحناجر بمئات الغصات ,والأنات وهي تبحث عن فتات ما تبقى من خير,وفضلات موائد الكذابين ,هذا إذا ترك اللصوص لنا أي خير نحلم به ,أو نعيش عليه.وتبحث في ثنايا ذاكرتك المشتتة التي استمر يقصفها الحزن والألم قرابة نصف قرن عن كلمة تسر الخاطر في هذا اليوم الخارج عن السياق الغريب ,فلا تجد سوى الخيبة,والإحباط ,والهزيمة ,والانكسار الكبير لحلم صغير ,وحلم أكبر بوطن جميل يضحك فيه الجميع.وتعلن إفلاسك العاطفي ,والفكري بعد أن أصبح إفلاسك المالي الفردي عنوانا عريضا لقصة يعيشها الملايين.أي خير هذا وأنت ترى السكاكين تشحذ ,وتدلف من كل فج عميق ,طالبة رأس الوطن الذي كان يوما ما حضنا وديع.وتعبر خيالك كل لحظات العذاب والمرارة التي اجترعتها وأنت تعبر كل هذه السنين المديدة الذي تعتقد أن الموت كان أفضل من أن تواجه هذا المصير الأليم.لحظات ليس فيها ما يسر أو يتركك مطمئن البال سعيد.لحظات تفجر أطنانا من الألم,وبراكينا من القهر تكومت في حقب من الاستبداد اللامتناهي ,والاحتباس النفسي .أي خير وأنت ترى أصدقاء العمر الجريح وقد غيّب الموت بعضهم,وبعضهم يرزح تحت وطأة دين وفقر مدقع مرير,وعصفت أمراض مزمنة تركت أثرا لا يمحى على ذاك الوجه الذي كان يشع يوما بهجة, وفرحا, ونضارة ,وإشراقا وبسمات لا تغيب. أي عيد وأسطوانات الكذب والرياء يلوكها رهط من المنافقين حولت حاسة السمع عند الآدميين إلى نقمة تحسد فيها الصم والبكم ,وأولئك الأطفال الذين ولدوا مشوهين و"منغوليين".أي خير وغيوم الظلام تغطي السماء ,وتسد كل نوافذ النور الموصدة في وجه حياة أكثر ضياء وألقا. أي خير هذا في هجرة لايبدو أن لها نهاية,أوعناق عز في الليل البهيم.وحيث أصبحت أكبر من مشكلة لأكثر من لاجئ يجوب العالم بحثا عن وطن جديد,وفي قلبه رائحة التراب في الوطن العزيز,ووجوه المحبين.أي خير وأنت لا تعرف أين ستكون غدا ,وكيف ستستقبل الصبح الجديد ,وأين ستنفجر القنابل والعبوات الناسفة بالأبرياء الآمنين,ومتى ستنكس الرماح المشرعة في حرب صفين,وتغمد سيوف المرتدين,وكم طفلا سيشيع غدا مع إطلالة الفجر ,ومن سينحر غدا من الوريد للوريد؟
كثرت ملفات العذاب,وتجذر الألم والهزيمة والإحباط,وهانت وعجزت الحكومات,وهزمت الشعوب,ووئدت الأحلام,والقادم أدهى وأخطر على العباد ,وتنامت المشكلات المستعصيات التي تبحث عن حل مستحيل في أرض الأوطان .ومع موضة لا حل إلا بلجان التحقيق الدولية ,فحتما ستتجه القلوب والمآقي المحبطات لتبحث عن لجنة ,أية لجنة,وحتى ولو من بلاد الواق الواق لتبعث الدفء,والأمل في الجسد الذي أعياه الصبر ومل الانتظار.وبما أن هناك آلاف القضايا المعلقة ,والمؤجلة,والمسوفة ,وتلك التي نومت مغناطيسيا والتف عليها الفهلويون الشطار ,والتي يبدو أنه لن يحلها إلا تدخل الخبراء الدوليين بعد أن فشلنا في حل حتى مشكلة الأفران وتوزيع اسطوانات الغاز ,لذا لا يسعنا إلا أن نقول لكم:
كل عام وأنتم بلجنة للتحقيق يا.....شباب.