|
ما قيمة الوطـن إذا كان كيـان المـواطن فيها مستباح أحمد الخفاف
من التناقضات الغريبة التي تعيشها منظومة الفكر القومي العربي المعاصر هو احترام مبدأ قدسية "الأوطان" في حين تمارس مبدأ استباحة "الإنسان" الذي يعيش على أرض هذه الأوطان!! فالأوطان في الفكر القومي العربي "مقدسة" حد تقديس الله تعالى بل وأكثر، ولكن "الإنسان" الذي كرّمه الله تعالى وجعله خليفته في الأرض "مستباح" تنتهك إنسانيته وتداس حرمته وتسلب حقوقه باسم "الوطن" أو على حساب "الوطن"!!. هكذا بكل سهولة ينظّر مفكرو القومية العربية لمبادئ ممقوتة تعبّد الطريق لدوام سيطرة أنظمة ديكتاتورية مستبدة سواء كانت علمانية أو دينية على الإنسان العربي المقهور في جميع البلدان العربية دون استثناء. في ماكنة خطاباتهم المملة يتنادون القوميون العرب بـ "الأوطان" ويتغنون بقدسيتها.. وبمائها وأرضها.. وجبالها وسهولها.. ونفطها وخيراتها.. وهم أول الناس بيعا لشرفها.. ونهبا لثرواتها.. وانتهاكها لحرماتها واضطهادا لإنسانها وسَحقا لمواطنيها.. يقيمون المهرجانات الخطابية الجنجلوتية ويقرعون الأقداح في نخب الأوطان وهم عملاء حتى النخاع لمن جلبوهم إلى رأس السلطة عبر الانقلابات بقوة النار والسلاح.. يمارسون القهر والذل ضد "الإنسان" ويهلهلون بحب "الأوطان" وكأن "الأوطان" ومن عليها مُلك قدسي أزلي وراثي لهم ولورثتهم من بعدهم، و"المواطن" رعية تساق بالسياط لا حرمة لها ولا قدسية.. تزهق أرواحها المقدسة في الحروب المزاجية.. وتنتهك حرماتها باسم القومية.. وتحرم من حقوقها الأزلية.. ويداس عليها في غيابات السجون وظلمات المعتقلات.. لا لشيء إلاّ لأنها اتهمت بتعرضها لقدسية "الوطن"!!، إنها حقا مهزلة قومية!!.. إنها حقا معادلة صعبة في منطق القوميين العرب يصعب على الآخرين من الشعوب المتقدمة هضمها.. فـ "الوطن" قطعة الأرض والتراب في هذه المعادلة المهزلة "مقدس"، ولكن "المواطن" الذي يعيش على قطعة الأرض هذه.. نفسه وروحه.. ماله وعرضه.. حاضره ومستقبله.. إنسانيته وكرامته.. غير مقدس لا بل منتهك حرمته وماله ودمه وعرضه اشد الانتهاك!! ما قيمة "الأوطان" إذا كان "المواطن" الإنسان فيها تنتهك حرماته ليل نهار.. ويراق دمه.. وتستباح كرامته.. وتغتصب نساءه.. وتسلب ثروته.. ويداس على إنسانيته.. وترتكب بحقه أبشع الجرائم.. ويزق شتى ألوان العذاب. يصرخ "المواطن" في أعماق مأساته ثائراً.. قارعا صمت الزور والتزوير.. أنا إنسان.. أنا الذي كرمني الله بقوله // ولقد كرمنا بني آدم//.. أنا الذي جعلني الله "خليفته" في الأرض إذ قال لملائكته //إني جاعل في الأرض خليفة//.. أنا الذي شرفني الله تعالى بهدايته ومنحني توبته وأعد لي جنات عرضها السماوات والأرض.. أنا الذي علمني ربي.. أنا الذي أدبني ربي فأحسن تأديبي.. أنا الذي خلقني ربي فأحسن صورتي.. أنا الذي طلب الله من الملائكة أن تسجد لي احتراما.. أنا الذي خلقني الله بيده.. أنا "المواطن" هابيل في الزمان العربي الرديء أذبح كل يوم في مذبح "الوطن" وقدسيته المزعومة المفتراة على العقل والدين والتاريخ وأهل الأرض والسماء.. "الوطن" أرض وسماء.. جمادات لا عقل لها ولا وجدان.. إنها إمكانات مادية وأطر معينة لتسهيل حياة "المواطن" الإنسان الذي هو محور المادة والطبيعة في عالمنا الدنيوي.. يقول تعالى مخاطبا الإنسان // ولقد سخر لكم الشمس والقمر//.. و//سخر لكم الليل والنهار//.. وسخر لكم كذا وكذا .. سخر الله للإنسان كل ما في الكون.. ليتدبر.. ليفكر.. لينطلق إلى التحرر من عبودية الطغاة ومن أسر أقرانه من بني جلدته.. ليسود على الأرض والسماء.. ليعود إلى الله بعد أن ظلم نفسه بعصيانه حيث لم يكن له عزما.. فهل ما سخره الله في كتاب الخلق من إمكانيات عظمى في الكون كان "للأوطان" أم "للإنسان" وأيهما له العقل والإدراك والإحساس والهدف النبيل "الوطن" أم "الإنسان"؟؟ "الأوطان" باقية ما بقي الدهر والزمان.. إنها أوعية لاحتضان "المواطن" الإنسان الذي جاء إلى الدنيا ليعيش فيها مرة واحدة باحترام.. وبإنسانيته التي فُطر عليها.. لا بتقمص حيوانية الوحوش فإنه عالم آخر.. فالإنسان كائن سام، يسمو على كل الخلق في الدنيا.. يقول تعالى // إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم// هذا هو الخطاب الإلهي.. خُلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف.. وليس لنتقاتل على زعامة أو ملك أو هيمنة على مقدرات بعضنا البعض.. خلقنا مختلفين من أعراق عدة لنتفاهم ونتعارف ونتعاون.. لا لينتهك حرمة بعضنا بعضا.. ولا ليسفك دمنا بعضنا بعضا باسم قدسية الأوطان واحترام القادة وتبجيل الحكام.. إن أكرم البشر عند الله هم الذين يتقون.. يتقون الرذيلة.. يتقون الجريمة .. يتقون الظلم .. يتقون العدوان على الآخرين.. يتقون الكذب والزور.. يتقون البغي على الآخرين.. المنطق الديكتاتوري العربي المستبد الذي ينتهك حقوق "المواطن الإنسان" ألبس "الأوطان" هالة من القدسية المزورة، فالوطن عند هؤلاء "مقدس"، ويقولون أن قدسيته نابعة من هيبة الدولة والحكم، وصفوة العشيرة، ونقاء الدم القبلي.. فأوامر المستبد "مقدسة" تأخذ ثوب القدسية من "الوطن" المقدس!! أما "المواطن" فلا قدسية له فهو رعية من رعايا الحاكم مالك "الوطن".. ويبقى الإنسان العربي المقهور لا يفهم "المواطنة" ولا "الإنسانية" ذلك لأن أحدا لم يبلغه ولم يعلمه من هو؟.. ولا دوره في الوطن.. ولم يُعرّف بحقوقه في الوطن منذ نعومة أظفاره.. هكذا أنشأت المناهج الدراسية العربية المواطن العربي.. إنه رعية تابع للحكام والملوك ولولاة الأمر وعليه احترام هيبتهم والرضوخ لأوامرهم وإلا فأنه خائن بحق "الوطن" المقدس!! يستحق أشد أنواع العذاب.. لقد تحولت "الأوطان" بفضل العقل العروبي الضارب في جذور التخلف من التاريخ في منطقتنا بالذات إلى ملكيات خاصة وإقطاعيات عشائرية بأرضها وماءها وسماءها ومواطنيها.. تورث جيل بعد جيل إلى الحكام ومن يتلونهم من أبنائهم.. وجميع الحكام أوفياء على العهد والميثاق المتين.. فـ "الوطن" مقدس قدسية الله و"المواطن" الإنسان مباح التصرف والامتلاك، منتهك الحقوق، ملعون بن ملعون!!
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |