كان لدي عصفور أخضر جميل "مخفور" في قفص صغير,وكنت أوصي الصغار دائما بضرورة تجنب فتح القفص كي لا يهرب الطائر الصغير الذي كان مصدر سعادة وسرور ولهو للاطفال. وطال احتجازه في البيت الجديد فترة لابأس بها من الزمن ,كانت كافية لأن تقتل فيه الحياة ,وتجعله غير ما كان .وبعد فترة قررنا إطلاق سراحه ,بدون مرسوم جمهوري,ليحلق في الفضاء الرحب الطبيعي مرة أخرى.وكانت لحظات الوداع ,وخاصة بالنسبة للأطفال ,مهيبة ,خاشعة ,وصامتة ,وفيها مشاعر متباينة,وغامضة.وهنا كانت المفاجأة الكبرى حيث أبى ,وتمنع, ولم يعد قادرا على الطيران,ورغم محاولات دفعه العديدة لفعل ذلك, بعد أن تيبس جناحيه وضمرت عضلاته,وتعطلت آليته الحركية طويلا. وذهب استنفارنا الأمني أدراج الرياح ,وكل وصاياي للأولاد لم تكن ذات نفع أمام الوضع الصاعق الذي اكتشفناه,وقرأت في عيونهم نظرة لوم وعتاب.
ويبدو أنه استساغ وضعه وتآلف معه ,واصبحت الحرية ,بالنسبة له , شيئا غريبا تماما ,لا تعني له شيئا على الإطلاق. وفي كل يوم كان الصغار يلهون به بالعصفور ,كان يموت لديه نذر يسير من ذاك الشعور بالحرية وبالحياة,وهكذا مع توالي الأيام وانقضائها نسي ماهية الطيران وما معناه,وما معنى أن يكون الكائن عصفورا ,وأدمن أن يكون مسجونا وفوق رأسه سجان,يحصي عليه الأنفاس .لا بل قد يرفرف أحيانا ,فرحا,حين يأتيه السجان.ونسي تماما كيف تحلق العصافير في الأجواء,وأذعن لقدره وهذا المصير.وكلما كان يهمّ بمحاولة طيرانية جديدة كان يخرّ على الأرض خائبا ,وحزينا,ومكسور الخاطر والجناح,وفي عينيه قهر ,ودمعة محبوسة . وفي كل مرة كنا نحاول دفعه نحو السماء كان يعود لوحده ,ويعتريه الحنين إلى القفص ,وإلى عشه الاصطناعي الذي أنساه وضعه الطبيعي.وحين تتغير هوية الكائن الحي لابد سيحصل تغيير في سلوكه.
وليست العصافير وحدها التي تحبس وتعاني من الأسر والتغييب. فهناك أمم,وشعوب حبست طويلا بأقفاص كبيرة ,وسجون,وقضبان من الحديد لعقود طويلة ,فقدت فيها الإحساس بالزمن المتحرك من حولها وبالمتغيرات التي تجري حولها ,وبالعالم الذي كان يتطور كل يوم ,ويأتي بشيء جديد. وحين تنال حريتها دفعة واحدة فقد لاتعرف بأي اتجاه تسير,وإلى أي فضاء تطير .وتصاب,كما الإنسان, بتكلس المفاصل,وتيبس الجهاز الحركي , ويعتريها ,أيضا,داء الخمول والكسل بعد أن تتعطل عقودا أو قرونا,وتتوقف عن إنتاج الأفكار ,وتموت عندها رغبة الإبداع,وتبقى عقودا طويلة تجتر مالديها من زاد ثقافي ,وإرث فكري,قد يكون قاصرا على مواكبة المتغيرات ,بحجة الحفاظ على إرثها الفقير الذي لم يفلح في الماضي ,حتى يفلح في هذه الأيام,ولم تثبت نجاعتها في سالف الزمان.وقد لا تعرف كيف تسير حين تحاول ذلك ثانية,وربما تحتاج لوقت طويل كي تعود إلى سيرتها الأولى بعد أن تكون قد تعطلت أهم وظائفها الحيوية تماما,وتتحول إلى هياكل متحركة بدون روح أو تجديد.
وحين يمكث الإنسان فترة طويلة في الظلام ,ثم يخرج فجأة,ليواجه النور الوهاج دفعة واحدة فإنه قد يتأذى ,ويصاب بتلف خطير في أجهزة الرؤية قد تصيبه بالعمى الكامل,وقد يكون عند ذاك بقاءه في الظلمة أيسر ,وأفضل له بكثير.والآن تجري محاولاة خجولة لإطلاق سراح بعض العصافير التي قبعت طويلا في أقفاص أجهزة متجبرة لا ترحم,كانت لهم بالمرصاد ,سامتهم المر,والقهر ,والعذاب,وأخشى ما يخشاه المرء ألا تستطيع هذه العصافير من إعادة التحليق مجددا في الفضاء الأثير,ولاسيما بعد أن غابت الأسراب الأخرى في آفاق بعيدة,ودخلت مجرات جديدة قد لا تسطيع تلك العصافير الأسيرة أن تلحق بها في وقت قريب.وما معنى أن يتحرك الإنسان ولكن كل شيء في داخله معطل ,وليس فيه أدنى إحساس أو أي نوع من الحياة؟ وعندها تكون قد ماتت مرتين ,المرة الأولى حين استبيحت حريتها وتسلط عليها القراصنة ,والأخرى عندما فشلت في إعادة النهوض والعودة إلى التحليق,وعند ذاك قد يكون بقاءها في الأقفاص القديمة أفضل ألف مرة من محاولاتها للطيران , تماما كما حل بعصفوري الجميل.
ومن أكبر مآسي الحياة,وأفظعها, أن يموت كل شيء في داخل الإنسان وهو لا يزال على قيد الحياة.