تراب الوطن العذري البعيد أمنية عزيزة في قلوب المحبين ،وهو عشق لكل العرب الهاربة،والمهربة بالقوارب، والمواطنة المهاجرة،والمهجّرة بالمراكب، والسارحة في موانئ العالم الكالحة،وما أصعبه من لقاء حين لا يستطيع المرء أن يعانق ثرى بلاده إلا وهو مسجى بكفن وفاقد لكل لكل الحواس.
كان الموكب الجنائزي الحزين معبرا جدا,وإن كان مثقلا بشبح الإرهاب، بما حفل من مؤثرات خاصة أضفت عليه طابعا مميزا لا تقدر أن تتقمصه إلا تلك الأمم التي نكبت بالأوبئة الفكرية العضال,وبنوع نادر من العقول والرجال.وكان الجثمان الذي يسبح على أكف المشيّعين يطلق أكثر من صيحة صامتة للجميع,وإن تكن في النهاية في واد. ولن تستطيع حفنات التراب الغالي التي انهالت على الجسد المثخن بالجراح، أن تغطي ذاك الجبل العظيم، كما لن تستطيع أن تمحو ذكراه من قلوب المحبين ,لأن حياة العظماء الحقيقية تبدأ فعلا فقط بعد الرحيل.
وفي كل مشهد جنائزي مهيب تحضر الفلسفة ،وتثار الكثير من الأسئلة،وفي عيون أولئك الحاضرين تقرأ كتبا كاملة بلحظات قليلة عابرة.وتسأل كم عقاد في هذه اللحظة يتمنى عناق تراب وطنه بغير ذاك العناق المأساوي,وكم عقاد آخر يتمنى أن يسدل الستار على عواطفه،ويعلن لحظة الرحيل الأخيرفي عالم المجهول الفسيح؟وتنظر في وجوه أولئك الرسميين القَدَريين الذين صنعوا جزءا من مأساة هذا الإنسان البائس المسكين,ونكبة الوطن الكليم ،لتقول لو أن أحدا منهم "استلم" العقاد في إحدى إقطاعاته,ومزارعه المفتوحة "للفاتحين"،فهل كانت تلك العبقرية ستتفتق عما آلت إليه،أم ستؤول كالعادة إلى حلم موؤود دفين وحشرجات تؤرق القلب في الصميم، وليطارده من ثم الفقر والوجع والكوابيس؟وتتمنى ألا تفكر بالإجابة مطلقا لأنها ستكون كارثية عليك بكل المقاييس.
وتخمن في أي إرشيف كان سينهي حياته الحافلة بالنمطية والشعارات والروتين؟ولا بد أنك ستسأل نفسك لو لم يهاجر هذا الرجل العظيم في رحلة الصعود نحو المجد،فاي مصير ,وقلة و"تعتير" كانت بانتظاره في هذا البلد الأمين؟وكم من تقرير أمني كان سيلاحقه,ويفتش في تلافيف مخه الكبير؟وكم مرة كان سيراجع فروع المخابرات،ويمثل أمام العرفاء الملهمين والمحقيقين من حماة الوطن من فيروسات المشبوهين ؟وكم من وطني غيور سيشكك في ولاءه،ويقيس له نبضات حماسه السلطوي،ومستويات الوطنية في الزنازين كما يقاس ضغط الدم في الشرايين ويرسل تقرير عن حالته الوطنية للأوصياء المعلومين؟وكيف سيتعامل العتاولة المزمنين مع كاميراته وسيناريوهاته وكيف كانت ستتعرض للتمحيص والرقيب والتشريح؟وكم كان سيبدد من وقت على الأفران,وبانتطار السرافيس,وأمام الموظفين المرتشين,وفي المسيرات الجماهيرية العفوية ،وفي دوائر القطاع العام المستباح عن بكرة أمه وأبيه للصوص وعابري السبيل والسارقين؟وكم قرن كان سينتظر لاستلام منزل من الجمعيات السكنية,وفي أي كوخ من مدن الصفيح كان سيعيش؟وكيف كان سيلتف على أحلامه الشطار المتحذلقون,ويغمرون حياته بالتطبيل والتزمير والتسويف والمواعيد؟ونفس هؤلاء الأتقياء الورعين الذين يتباكون الآن على عبقرية لم يصنعوها,ولم يكن لهم فيها أية يد,كانوا سيحيلون حياته إلى جحيم لا يطاق،كما أحالوها لجميع إخوته من عموم المواطنين المهمشين,ويتراكضون الآن بسعار مفضوح ،ونفاق رخيص لاستعراض حبهم وتغزلهم لأحد المواطنين,وهم الذين جثموا على صدره عشرات السنين ،آكلين،شاربين،ناهبين لايردعهم وازع ولا ضمير،قتلوا فيها المواهب،ووأدوا الضمائر،،وفرضوا التعتيم والتجهيل،وحاربوا المبدعين. ولا أدري لماذا يتذكر الإنسان في هذه اللحظات الكئيبة أدغال أفريقيا،وبالتحديد دموع التماسيح.ولو لم يخرج في رحلته "الأمريكية" المباركة تلك، لكان مجرد اسم مجهول في كشوف الرواتب تلاحقه الديون وقوافل جرارة من المطالبين، والدائنين.
وحين يصبح الإبداع نقمة,والعبقرية لعنة,والإبداع سبة,والموهبة وصمة,والوطن مجرد ذكرى وهجرة، فلا بد أن أمة كهذه ستكون قد وصلت إلى مراحل تستأهل فيها الشفقة والرحمة والرثاء.وبئس أمة تقتل أبناءها،وتطارد علماءها،وتخرس أصواتها،وتغيّب فرسانها،وتهجّر أبناءها،وتسفّه أنبياءها،وتغتال أدمغتها,وتسجن أحرارها،وتطلق شبّيحتها،وتستوزر لصوصها,وتُسيّد زعرانها,ويسرح ويمرح أغبياؤها،ويتفرعن جنرالاتها،ويتشدق أدعياؤها,فلا بد عندها أنه إعلان لوفاة وطن بكامله ,والتحضير لجنازته,وليس من المهم،إطلاقا، من يشيعه في ذلك الحين.
رحم الله العقاد فقد أثارت وفاته التراجيدية أشجانا فوق أشجان,وأحزانا فوق أحزان,وأوقدت في القلوب الكسيرة النيران.
ولا تتباكوا على العقاد فلقد قتلتموه مرتين.