بسب انشغالي الكبير بأخبار الأعراب ودسائسهم وفنونهم وجنونهم،لم يتسن لي الإطلاع عن كثب، على تصريح الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز باللغة الانكليزية لأتأكد من أن اللفظة التي أطلقها على الرئيس المكسيكي Vicente Fox فوكس،هي بالفعل " جرو" puppy dog تابع للإمبريالية الأمريكية، وليس كلب dogحسب ما تناقلت ذلك وسائل الإعلام، وبين الكلمتين فرق كبير حيث أن الرجل لم يتمكن من الوصول حتى الآن لمستوى الكلاب ودرجتها برغم أنه وصل لمنصب رئيس جمهورية، ومازال مصنفا مع الجروان الصغار,وفي هذا إساءة مزدوجة بالغة تصدر من رئيس ضد زميل له،بقدر ما فيها من إجحاف وحيف ربما ضد الكلاب هذه المرة التي من طبعها الوفاء. فما ذنب الكلاب البريئة لجرها ،وتوريطها في مشاكل الساسة والسياسيين التي لا تنتهي خاصة إذا كان القيصر الأبيض بوش طرفا فيها،ولو من وراء الستار.وإن كان المقصود مباشرة بهذه التصريحات هو الرئيس المكسيكي فوكس،فلا شك أن شافيز كان يوجه كلامه إلى من هو أبعد من جرو صغير يلعب في فناء الدار الأمريكي,وربما كان يعني الفيل الكبير الذي يقبع في مكان قريب جدا.
والإساءة الأولى هي اعتبار فوكس جروا صغيرا وليس كلبا راشدا ،بالغا ومحترما,ويا للمبالغة والمصادفة العجيبة أن معنى كلمة فوكس باللغة الإنكليزية هي الثعلب,فهل يقصد أن الرئيس فوكس يحط من قدر الثعالب أيضا؟ والإساءة الثانية فهي لايجوز وصف رئيس بالجرو وإلا ماذا يمكن أن تكون الشعوب عندها إذا كان رؤساؤها كلابا صغيرة. واشتعلت بعد ذلك حربا ديبلوماسية ضروسا بين البلدين لطرد السفراء ،فيما رفض الرئيس الفنزويلي شافيز تقديم أي اعتذار فيما يتعلق بتصريحاته.وفي الحقيقة تأتي هذه التصريحات على مبدأ الكلام"للكنة ولكن اسمعيه ياجارة".هذا ولا يفوت السيد شافيز مناسبة إلا ويصب جام غضبه على الأمريكان وحلفائهم في المنطقة.ويستغرب كثيرون من أين يستمد هذا اليساري الثوري الفنزويلي قوته المعنوية الضاربة تلك ضد العملاق الأمريكي المتنمرد.هل هي بسبب تلك المخزونات النفطية الكبيرة التي تمتلكها فنزويلا أم لأسباب أخرى منها ماهو ظاهر ،ومنها ما هو غير ظاهر؟ ولكن بمطلق الأحوال،هو موقف مشرف يحسد عليه،ويظهر أهمية استقلال القرار الوطني،وعدم تبعيته لقوى أجنبية بالرغم من قوتها الاقتصادية،والسياسية،والعسكرية الفتاكة.وكم يتمنى المرء أن يجد صدى ومحاكاة لهذه السياسات التصعيدية الجريئة في أماكن أخرى من العالم حيث يسود الخنوع,والانبطاح،والاستسلام التام لمشيئة السيد الأمريكي,وحيث تتواجد "فصائل",وسلالات أخرى كثيرة من المخلوقات .
ومن المعلوم أن المكسيك تشكل مع الولايات المتحدة الأمريكية أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم حتى الآن.وشافيز هذا اليساري الفنزويلي الذي يقف الآن شوكة في الخاصرة الأمريكية ،مع الرفيق العتيق فيدال كاسترو،صار موضوع أكثر من مواجهة ساخنة مع الولايات المتحدة ولاسيما حين أباح القس المتطرف بات روبنسون في برنامج تلفزيوني باغتيال شافيز،تماما كما يفعل شيوخ الأعراب وسادتهم الكرام مع معارضيهم.ولكن الذي يشفع لهوغو شافيز هو أنه منتخب ديمقراطيا ولم يأت للحكم على دبابة أمريكية,ولا بطائرة سوخوي سوفياتية,أو بسيارة شبح ألمانية، أو حتى دراجة صينية .ولم يستطع القيصر الأبيض جورج بوش طبعا تهديده,أو وصمه بالديكتاتورية، وفرض إملاءاته التعجيزية عليه,أو إعطائه مهلة لترك قصره الرئاسي كما فعل العم بوش مع أحد الأعراب الحبايب المشهورين، لسبب بسيط هو أن شعبه يقف معه، ولم يكن شافيز خادما, أو تابعا ,أو جرما سياسيا صغيرا يدور في الفلك الأمريكي. فنزويلا هذه تقع على رمية صاروخ صغير من أمريكا ولم تستطع أمريكا هذه بكل جبروتها، وطغيانها, وطائراتها أن تفعل شيئا مع هذا الرئيس المتمرد على الهوى الأمريكي المزاجي لأنه يمثل إرادة شعبه ويستقوي بإمكاناته ضد الصلف والعنجهية الأمريكية.
ويتمتع السيد شافيز بشعبية عارمة بين أبناء شعبه،وقد حاولت الولايات ومن خلال عملاء محليين فبركة انتخابات لعزل شافيز،إلا أنها أتت في مصلحته،وفاز رغما عنها،وفي عقر دارها،وفي منطقة هامة بالنسبة لها،وتشكل مجالا حيويا بالنسبة لها.وهذا هو منطق الأمور ولاشك حين يكون الزعماء منتخبين بشكل شرعي،وقادمين من صناديق الإقتراع،يستقوون بالشعب في شق طريقهم نحو المنعة والقوة والسؤدد والعلاء، ويستطيعون أن يواجهوا أعتى القوى الدولية,ويقفوا في حلقها كالمسمار ،وليس ثمة من داع عند ذاك لأي نوع التزلف،والتحبب،والتودد،والتوسط لأي كان، لأن الشعب سيكون درعا لهم وقت الملمات، ويحميهم برموش العين،وفلذات الأكباد.
ويبقى السؤال الأهم ما ذنب الكلاب الشاردة، والضالة،وحتى الأليفة منها في عالم السياسة المليء بالبشر، طبعا، وليس بالكلاب.