أيام أخيرة مع كمال سبتي قبل هربه المدوّي من جحيم الدكتاتورية

 

حسن النواب / شاعر عراقي مقيم في استراليا

askan13@yahoo.com

 الى كمال سبتي

 الذي أعجب له يا كمال. أيها الطفل الصغير. يا أصغر طفل في العالم ويا أكبر قلب فيه أيضاً. دعني أقول لك شيئا بائراً. لم أصم رمضان في عراقي وقد صمتُه في أستراليا. الغريب أني لم أشرب جرعة خمر هنا في هذا الرمضان. بينما هناك كان أبي يركض خلفي وأمي أيضاً وهما يتوسلان أن لا أضع خمرة الجنة في فمي. حسنا أكتب الآن بعافية الفطرة المتناهية. هل خبرت هذه العاطفة؟ دوما أشك بالذي يصفن ويكتب. ذلك أن الكتابة تشبه العادة السرية بشكل كبير. الكتابة الشعرية أعني. والبرهان أن هناك ملايين الشعراء الذين يكتبون القصائد دون معنى. الشاعر يكتب قصيدته كما لو أنه يمارس العادة السرية . أعني رعشة القصيدة. لا أعني تفاهتها. دوما ياكمال أراك تكتب الشعر كما لو أنك تمارس عادة سرية. هل هناك قبلي من قال لك هذا ؟ في حروف المصحح أو في الأقبية أو حتى آخر المدن المقدسة التي نشرتَها يا كمال بعد هربك من العراق والتي قرأتها أنا في العراق وتحديداً في فندق الصياد عندما عاد هذا البهلوان الذي أحبه صلاح حسن من الأردن وهو يحمل هذه المجموعة بين يديه. والله كنا ننام في الصالة العارية التي تعرفها في فندقك القديم : "الصياد" وكان جان دمو ينام على أريكة لم ترفع بعد.

 قلت لجان هذه قصيدة طويلة لكمال سبتي. أتعرف ماذا أجاب ؟ ضحك جان وقال لي (آه أنا أحب كمال أكثر من تشردي وضياعي. وينه هو؟. حتى يطعم هذه القطة. وكان يقصد قطة رسمت على جدار. لم أر جان يبكي إلا تلك اللحظة. لم أره يبكي على الإطلاق. ثم قال. ترك في عاتقي هؤلاء اليتامى وهو الأب الشرعي لهم..سحقا له. ماذا أتحمل.. سركون أم سعدي أم كمال سبتي. يا أولاد القحبة.. ) هنا أقف أمام ثلاثة مشاهد رأيت كمال سبتي فيها. الأول هو ربما كان مهرجان المربد عندما دخل الشاعر وقصبة ساقه مكسورة. دخل الفندق بساق يعلوها الجبس وعكازة لا تليق به. ربما اضطر لاستدانتها من صعلوك عابر كان معوقاً بالحرب. كانت عكازه مسوّدة بالسخام وربما بحزن درابين الحيدر خانة برغم نيكلها الفضي . ظل الشاعر يذرع ممر الفندق بساق مرتبكة بيد أن صوته كان مليئاً بالشجن حين يرد على السلام . الغريب كان الشاعر يرد على التحية بأحسن منها كما لو أنه بزغ فجأة من سوق عكاظ الى سوق لايباع ولايشترى به الشعر إلا بالمديح والهتافات .

 ولذا رأيته غريباً وقلت في سرّي. ماذا لو عاد الشاعر بساقه البيضاء الى وادي عبقر ؟؟ حينها كان سليم بركات قد حضر ذلك المربد. وكانت صيحة شعره لها مذاق وشهرة( أبو العود والإسكيمو أبو الطابوكة) في درابين الفقراء. وتلك مرطبات يعرفها ويعرف خطورة ثلجها الملوث على رئات الشعر كل الشعراء الأقحاح ؟؟ جلس كمال الى عدد من الشعراء وكان بينهم سليم بركات. وكنت واقفاً الى جنبهم كفانوس مضيف مطفأ.تحاوروا كثيرا عن الشعر وهم يدركون إنهم يستعرضون أحوالهم في تلك الجلسة. إلا كمال الذي قال لهم وهو ينسحب عن مجلسهم بعد سبع كشخات منهم. قال كمال وكنت أسمع صوته تماماً. ياجماعة بلا مزايدة حتى ساقي المكسورة لاشيء.

 بل هي تافهة أمام مايحدث في الجبهات. أذكر أن سليم بركات أراد أن يخفف من غضب شاعر "وردة البحر" كمال سبتي فقال له. نحن نتحدث يا صديقي كمال بأفق أعلى. رد عليه كمال ومن أين يأتي الأفق لنا يا صديقي سليم ونحن مازلنا نتحدث عن شعراء نجوم مصنوعين. وانفرطت الجلسة. والمشهد الثاني يوم رأيته في نادي الأدباء. عندما كنت أجلس الى جنبه وبيدي ديوان دنيا ميخائيل. وما أن وصل صلاح حسن حتى أطاح بالديوان الذي بين يديَّ الى ساقية الحديقة. دون مقدمات. أذكر أن كمال قال له لقد أخذت الكتاب من كف إنسان لا يغفر لك ما فعلته أبداً. وهو شاعر. والديوان لشاعرة أيضاً. صفن صلاح قليلاً.. كان حينها يلبس البذلة العسكرية الزيتونية التي لا يلبسها كمال..

فقد كان جندياً مكلفاً بسيطاً . سبحان الله. وبكل هدوء طلب كمال..مكلوم (ظلّ شيءٍ مّا) من صلاح أن يغادر المائدة. حاس قليلا صلاح ثم انسل عن وجودنا بحثاً عن صيد غبي يناسبه تلك الليلة وعلى موائد أخر. أما المشهد الثالث … وهو الأكثر أهمية لكشف بواطن الثقافة العراقية في ذلك الوقت حين حانت ساعة انتخابات اتحاد الأدباء والجبهات ترسل كل يوم التوابيت تترى أمام عيون منكودة لفرط ما ذرفت من دموع صارت مصابة بالرمد . مامن عين عراقي مضطهد كانت ترى مشهد البلاد دون قذى فقلد أصاب الرمد جلّ العيون التي أهدت الأبناء تباعاً برغم أنفها لمسلخ حرب درداء وكانت تكظم الآهات في أقبيتها المنسية الطعينة والمطعونة . حتى الآهات المعلنة من صدور العراقيين صارت تساق الى زنازين لا يعرف دروبها حتى الله . نعم صارت الآهة والأنة والحسرة والدمعة وحتى البسمة المريبة تزج بالسجون. كرماً لابنائها الذين نحرت رؤوسهم في السواتر المتقدمة من الحرب. فحتى أم القتيل صار لزاماً عليها أن تطلق زغرودة النفاق بدلاً من نوحها ومن غضب نياط قلبها الذي تحول الى حيات سامة تلدغ كل مسامات جلدها. صارت الأمهات تلحق بالأبناء المضرجين بالدماء بعد شهر على أكثر تقدير. الى قبر بجوار إبنها من هول الكمد. أية عاشوراءات مرت على البلاد في تلك السنين. كان الجندي القتيل في حرب الشمال في السبعينات حين يصل الى بيت أهله على سيارة الواز مع ضابط حزين يشعل في المدينة أحزاناً لا نهاية لها. بيد أن قتيل حرب إيران صار يدفن بصمت مع قرار سري أن تصاحب الجنازة هلاهل مزيفة. صار الموت في البلاد يتخذ أشكالاً وأنواعاً غريبة وعجيبة حسب الظرف والزمان والمكان. وكان السفر ممنوعاً..

  مع كل هذ ا الخضم غير الشرعي وغير المعقول وغير المجنون أيضاً. حدثت انتخابات إتحاد الأدباء. يومها كنت جندياً حقيراً في قاطع الشيب. وكنت حينها بإجازة لمدة إسبوع حين صادفت تلك الانتخابات. ولما كنت عضواً في هذا الاتحاد ومن محافظة كربلاء صار من حقي أن أبيت في ضيافة الاتحاد في واحد من فنادق بغداد. لحين وضع ورقة اقتراعي صباح اليوم الثاني في صندوق الانتخابات. كان سريري لتلك الليلة في فندق قريب من ساحة كهرمانة ربما إسمه زهرة بغداد. وقيل لي إن هذا الفندق كان يستقبل البعثات الدبلوماسية قبل أن يشيد فندق المنصور والرشيد وغيرها من فنادق القتلة. شعرت حينها بالفخر كواحد من الدبلوماسيين في ذلك الفندق. كنت أستلقي على سريري عندما دخل الى غرفتي الشاعر كمال سبتي بصحبة الناقد المسرحي وليس الشاعر حميد كاظم الصائح.. جلسا على حافة سرير مقابل الى سريري. كان كمال منشرح الروح والنفس لكن حزنه لا يفارق ملامح وجهه مهما حاول الاجتهاد بذلك. لكني فوجئت أن لا سكن لهم تلك الليلة ماداما من سكنة بغداد. أي بمعنى أصح لا ضيافة لهما من اتحاد الأدباء. وشعرت بالقرف الذي بددته بحة صوت الشاعر. الغريب في كمال سبتي وتلك واحدة من هبات الرب إليه. أن في صوته بحة حزن مضطهدة حتى لو نُصّبَ ملكاً !!

قال لي . دون لف ودوران أنا سأرشح نفسي لهذه المعركة. من أجل الهرب من العراق. كان كمال يفرك بأصابعه كما لو أنه تلميذ سيدخل في إصطفاف. هل كان يفركها ليزيل وسخ الحرب عنها أم كان يفركها كطفل غر يريد عبور الإمتحان. والواقع انا احب كمال لسبب ربما هو لا يدركه بنفسه. إذ كنت أرى فيه صورة للطفولة بأعلى براءتها. ارتعشت من صراحة كلامه لكني لن أمهل نفسي كثيراً عندما وجدت ذراعي تعانقه. هب فجأة وقال. سأذهب الى فندق أغادير لأخبر الأدباء الكرد بنية الترشيح.. وغاب عن أنظاري. أخرجت ربع العرق الذي كان في حقيبتي شربت نصفه سادة دون مازة ودون دخان. وتجشأت دخان الجبهات وهبطت الى حيث نادي الأدباء. بينما ظل الصائح يأخذ قيلولة على السرير. و شخيره يشبه قرع صنوج في ليلة عاشوراء..

  وبدأت الانتخابات. صوت يصعد وصوت ينزل والقاضي يردد الأصوات. حانت لحظة مني لأرى كمال واقفاً في منتصف القاعة واثقا من فوزه. وفاز كمال في انتخابات عام 1988 ليكون له فوزه وسيلة للهرب من العراق في مابعد والسفر ممنوع منه بسبب الحرب.. ومع حمى التهاني والتقبيلات. طلبت منه أن يكتب رسالة الى طبيب الوحدة الذي كان شاعراً أيضاً. أن يجد مبررا لغيابي عن أجازتي الدورية ليومين. كتب كمال مايلي لطبيب الوحدة...

 أخي.

 هذا إنسان حنون.

 غاب عن اجازته. لأجلي.

 وما اكثر الذين يغيبون عن الصلاة. لأجل الأصدقاء

 كن معه. حتى تكون مع الشعر

 أنا واثق من ذلك

 كمال سبتي .

 ______________________________

 *وردة البحر وظل شيء ما. مجموعتان شعريتان للشاعر كمال سبتي .

* هذا المقال كما واضح كتب في رمضان. لكن جنوني أراد له ان ينشرالآن.. بعد أن أكملته .

  

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com