|
وداعا أم تماره الدكتور لميس كاظم
دخلت سلام محمد شلال ( أم تماره) غفوتها الاخيرة بصمت هادئ، بعد أن تمكن منها المرض الخبيث، المخادع أن يطيل نومتها الخالدة الى غير صحوة. نامت وهي تعرف انها ستصحوا لتودع أحبتها الجالسين المتلهفين لسماع رنين صباحها الرخيم. لكنها دخلت الغيبوبة رغما عنها، وبدون موعد، حاولت أن تهرب منها لتحتمي بحضها الذي سجنها في همومه، جاهدت أن تستعيد حلمها الذي قد تفز منه مفزوعة لكنها غابت في خيال نومها، حالمة، سابحة، كملاك الرحمة على أمل أن... تلقي نظرة الوداع أن تسمع إبتسامة القضاء أن تتحم بعطر المساء...التي إعتادت أن تغفوا على انغام صوت محبيها. لكن القدر لم يمهلها ولم يمنحها رجائها الأخير... في أن تشم عبق رائحة أبو تمارة، رفيق عمرها الجميل، الضاحك الذي لم يفارقها في أصعب لحضات منفاها. في أن يخفف ألمها بنكته المرحة وضحكته الممزقة، وينتظر إشراقه إبتسامتها الخجولة التي نورت مسيرة عمره الحزين. في أن تعناق بناتها التي تتلهف لترى اخر نظرة من شمعة عمرها التي اطفأت في لحظة سوداء. في أن تودع نظرات الزاائرين الذين جاءوا من كل زوايا المدينة البائسة ليودعوا رفيقه دربهم. كانت مسيرة حياة أم تمارة صامتة، كحديثها البطيئ الايقاع، مبتسمة كوجهها البرئي، متأملة كحزنها السري الصامت خلف قسوة المحن وألم المنفي الذي أغرقها في أمطاره الغزيرة. كانت أم تمارة تسرق الم الغربة من بين هموم أبو تمارة لتخبئها في أخر زواية من سلتها العراقية العتيقة التي فاضت بأحزانها. كانت تحاول أن تسجن الامل فوق همومها لكنه غادر سلتها بدون موعد. أخبئت أم تمارها في سلتها الجميلة ألام غربتها الطويلة، وحنينها المستمرلمدينتها التي أغتبرت عنها في أول عشها الزوجي. كانت تلملم عذاباتتها فوق همومها وتغسلهم ببسمة داخلية داكنة، وتفرشهم على حبال اشعة الشمس الذاهبة الى بغداد. خرجت ام تمارة من قطار الحياة الهائج بصمت رهيب ووداع فردي لم يُحفى به غير سكونها الطويل. لم أتمن أن اراها في سريرها المريض، متعبة، منهكة، وهي تصارع الألم بمزحة وتستقبل الحياة رغم رحيلها المفاجئ. كانت تعرف أن لحضاتها قاربت على لمساتها المعدودة، لكنها كانت ترفض الخنوع لها تتشبث في اخر ضحكة تخرج من أعماقها تخزن اخر نظرة لبنتها التي تلونت عينيها بلون حزن أمها تنتظر لحظات قدوم تمارة لتكحل عينها بها قبل أن تغلقها. لم اتمن ان أزورها في سريرها الاخير، مستسلمة لألامها، منتاسية همومها ، مستضعفة لهول مصابها. فمن يعرف ام تمارة لايمكن أن يتصور، أن تلك المراة الناعمة، تقوى ان تتحمل كل الهموم التي أكتنفت حياتها في المنفى. لم اتمن أن تغادرنا بصمتها المعهود وخجلها الذي يخشع له كل من يعرفها. فراقتنا أم تمارة بعد حفرت في ذاكرتنا أصالة خلقها الجميل الذي لم يخدش مشاعر كل من حولها. كانت كنسمة الصيف حين تمر بقربك، فتحسسك باصالتها وطيبة سلوكها المتزن الذي أحترمه كل من جاملها وتعطر بسلامها العراقي الأصيل. فارقتنا أم تماره على عجل و سلتها ممتلئة بحنين فياض لعراقها الجميل الذي تركته منذ اكثر من ربع قرنن متأملة ان تخطف نفسها من بين أرجل اخطبوط المنفى القميء لتستريح على عتبات الوطن المكسرة. فارقتنا أم تمارة، مقدامة، متفانية، الى كل فعالية تخدم العراق، كانت تسرق الحنين من المها لتساهم في ردم جراح الوطن المدملة. فارقتنا أم تمارة بحب صامت تاركة بصماتها كمعزوفة موسيقية هادئة تطرب كل بقايا حطام المنفى وتبقى خالدة في نفوس كل من عرفها، مترحما على ذكراها في هذا المنفى اللئيم، الذي بدء يسرق منا أحلى أحبتنا. فارقتنا ام تمارة وقد بدء المنفى يسقطنا في ترابه الناعم، الوفير، الواحد يلي الاخر، كسقوط ورق أشجار الخريف، إذ بدئنا نتسابق في السقوط من على أغصان شجرة الغربة الهرمة التي رفضت ان ترضعنا من حليب مائها العذب. بتنا نتساقط مسرعين الى قبور المنفى، لم نلحق ان نلملم كلمات الوداع لأحبتنا من بقى صادما على غصون المنفى الجاحدة. كأن الكل خائفا من هذا السقوط الحضاري، منتظرا في اي لحظة يصمت الى تراب المنفى، قبل أمطار الخريف أو مع قساوة الشتاء الحزين. سقط الأحبة صامتين متحسرين، ولم يغتسلوا بتراب الوطن المبلل بجراجات الحرية. وداعا ام تمارة في مثواك المغترب... تاركة لنا ذكراك كمزهرية جميلة معطرة برائحة قداحك الذي ستيتفتح في سهول المنافي الجملية. نامي قريرة العينين مطمئنة باسمة وتواري الى ثرائك الطيب. الصبر والسلوان لرفيقها طارق وقرة عينيها رشا وتماره.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |