العشائرية في الدستور العراقي الجديد

 آزر ناجي الحساني

azernaji@yahoo.com

رئيس قسم الاعلام في مركز دراسات الخليج العربي جامعة البصرة

وعمل مديرا لمكتب المفوضية العليا للانتخابات في البصرة

 ماجستير علوم سياسية دكتوراه تحضيرية سياسة عامة

مدير عام شركة الشرق الاوسط التقنية للاتصالات

 تشكل الطائفية و العشائرية مظهراً من مظاهر التحديات التي تقف حجر عثرة في وجه الدولة القطرية و وحدتها الوطنية ، و هما جزء من ظاهرة التخلف التي نعيشها ، وذلك بخلق التناقض بين الانتماء للوطن و بين الانتماء إلى الطائفة و العشيرة, و تفضيل هذا الأخير على الانتماء للوطن .

 لقد كان الانتماء القبلي مسيطراً في العصر الجاهلي ، إلى أن جاء الإسلام برسالته التي نبذ فيها التعصب القبلي ، و لكنه لم يعمل ضد القبيلة بصفتها كياناً اجتماعياً و سياسياً فاعلاً ، بل استفاد من الإمكانيات التي تقدمها له القبيلة ، و سخرها لنشر دعوته ، فأصبحت المعادلة في ان الدولة القوية المركزية تفرض سيطرتها على القبائل و العشائر الواقعة تحت سيادتها ، فتلجأ إلى الترغيب و البذل حيناً ، و إلى الترهيب و الجبروت حيناً آخر ، و لكن هذا لم يغير في جوهر المسألة ، فالدول العربية الإسلامية تاريخياً تنسب إلى قبيلة الزعيم المؤسس لهذه الدولة و سلالته ، ابتداءً من الأمويين و العباسيين مروراً بالفاطمين و الأيوبيين و انتهاءً بالسعوديين و الهاشميين بالأردن حالياً ، طبعاً مع استثناء دولة الخلافة الراشدة التي لم تكن حكراً على قبيلة محددة من قريش ، و لكنها قامت على توازن قبلي استثنى الأنصار و القبائل العربية الأخرى لأسباب تتعلق بتاريخية و جغرافية مهد الرسالة ، و في أثناء السيطرة العثمانية و الاستعمارية للبلاد العربية كانت العشائرية إلى جانب الطائفية إحدى الوسائل المفضلة بغية تكريس الاحتلال و تفتيت المجتمع ، و عقب خروج الاستعمار الأوربي لجأت الأنظمة الحاكمة إلى نفس الطريقة التي كان يتبعها الاستعمار ، فاستغلت الفئات الحاكمة هذا الإرث التاريخي لتثبت قوة الأنظمة و جبروتها ، فحدثت انتهاكات مستمرة عقب الاستقلال للمؤسسات الدستورية في الدولة ، إلى أن ألت الأمور إلى ردة طائفية و عشائرية صريحة في الدول " التقدمية " و بدون قناع ديمقراطي أو قانوني شرعي .
 إن تنكّر الدولة للخصوصيات العرقية و الإثنية ، و قيامها بدور مركزي في عملية دمج قسرية غالباً ما يؤدي إلى قيام سلطة عصبوية تخدم مصالح القائمين عليها ، و لا تخدم مصالح الدولة بمعناها القانوني الذي لا تشكل السلطة سوى أحد أبعاده ، و من هنا نرى أن انفجار العصبيات الطائفية و العشائرية في المجتمعات العربية مرتبط باستبدادية الدولة التحديثية كما إن القوميين و الماركسيين و اللبراليين قد أغفلوا المضمون الإسلامي و المضمون العصبي للثقافة العربية ، لذلك ارتدت هذه المضامين عليهم ، و استعانت بما يسمى بالأصالة للعودة إلى الساحة الاجتماعية من جديد .
 لقد حدث هذا رغم الدعوات و الإيديولوجيات العديدة التي رفضت العشائرية و الطائفية و وسمتها بالتخلف و الرجعية . إننا نخفي الوجه الحقيقي لذواتنا ، فتحت التمدن يوجد البربرية ، و تحت الشعب يوجد الحشد ، و تحت رجل الدولة يوجد القائد ، إننا عبارة عن حشود صغيرة " طائفية و عرقية و عشائرية ... " أي حشود أولية اقتربت في محطات تاريخية معينة – كالتجربة الناصرية – لتصبح حشود ذات امتداد أفقي واسع ، و لكنها لم تتجاوز كونها حشداً ، و الحشد يتصرف بناء على رغبات رجل واحد ، ذلك لأن أعضاءهُ محركون بالاشعور الجمعي ذاته ، فالحشد يعزى للأساس الا شعوري المشترك بين أعضاءه ، و هذا ما يفسر لنا إلغاء الخصائص الفردية لصالح الوحدة المخلصة لروح الحشد – أي ما يسمى بسيكيولوجيا الحشود و هي سيكيولوجيا نكوص ، تزدهر في ظل غياب الوعي و عدم احساس الفرد بوجوده ككينونة مفردة و عظمى .
 إن لجم الحشد مستحيل سواء كان الحشد دينياً أو عرقياً أو عشائرياً لأنه لا يحتمل أي فاصل بين الرغبة و تلبيتها ، فالحشد هو نسيج متجانس سريع التصديق لا يعرف الشك , مغرور بقوته ، عصي على التناقض وهذا ما يفسر لنا التأيد الذي حظيت به أنظمة ديكتاتورية عديدة عبر التاريخ من قبل شعوبها " النازية – الفاشية – الشيوعية – الناصرية – عراق صدام حسين " مع وقفة قصيرة أمام نموذج " عراق صدام حسين " إذ أن الشعب العراقي كان بمعظمه ساخطاً على النظام ، في مقابل حماس عربي كبير على المستوى الشعبي لهذا النظام ، و مع ذلك لم يستطع العراقيون و خلال ثلاثة عقود أن يسقطوا أو يشكلوا تهديداً جدياً للنظام – و أستثني هنا العوامل الخارجية التي توكلت بعملية إسقاط النظام العراقي – فعراق صدام حسين هو عبارة عن مجموعة حشود عرقية و طائفية و عشائرية ، و لم يرتقي الشعب العراقي ليشكل حشداً عراقياً موحداً تحت قيادة صدام حسين كما هو الأمر في ألمانيا النازية مثلاً ، ففي المجتمعات التي يسيطر عليها الانتماء الغريزي و اللا وعي تسهل قيادتها عبر صفقة بين الزعيم الكبير و الزعماء المحليين الصغار ، صفقة خسيسة يذهب ضحيتها الفرد المواطن أولاً و الوطن الجماعة ثانياً ، إن النموذج العراقي ليس استثناءاً بل هو نموذج قابل للتعميم بنسب مختلفة بين الأقطار العربية ، و هو نموذج يطرح علينا قضايا بالغة الخطورة و سؤلاً مركزياً‘ ماهي المكانة التي يشغلها الوطن في الذهنية العربية ؟ ! اعتقد أنها مكانة ضئيلة ، فنحن مجتمعات قبل و طنية و قبل قومية ، نحن مجتمعات عشائرية و طائفية و عرقية بامتياز .

 فالأنظمة العربية الحالية أعادت إنتاج التفكك الاجتماعي ، و الطائفي منه و العشائري و العرقي بصورة موسعة ، و احتدام غير مسبوق حيث أفرغ المجتمع من محتواه الأخلاقي ، و دمرت أحزابه و نقاباته و مؤسساته و جمعياته ، و تم إلحاقه بالسلطة المركزية ، و نموذج عراق الأمس خير مثال ، حيث مع تنامي الحصار على العراق وتضاعف حجم التناقضات الداخلية " حيث حكم العراق من قبل التكارتة و أهل العوجا ، حكم بعائلة لا تاريخ لها في التعليم و المؤسسات و الاقتصاد الحديث ، و لا في الانفتاح على العالم الخارجي ، و قد وجدت عصبيتها تعبيراً لها في الزيجات الداخلية ، و لم تكتف هذه العائلة بتعطيل السياسة بل غدت سلالة ملكية ممعنة في الفساد ، و حتى إذا انكمش ريعها و تراجعت هيبتها ، ارتدت عليها عصبياتها و زيجاتها التي استخدمت في تمتين السلطة و تكشفت عن مكائد العفن و الانحطاط " حيث قام صدام حسين بمصادرة العراق لصالح عشيرته و أقاربه دون النظر إلى الكفاءات و المؤهلات العلمية و الشخصية

 لقد انحسرت السلطة في العراق ضمن دائرة ضيقة من التكارتة الموزعين بين الجيش و الأمن و رجال الاعمال حيث تقوم بينهم شبكات قرابة متفاوتة الصلات ، و قد بدا الحسد واضحاً من قبل العشائر الأخرى في العراق للتكارتة ، فكان من نتيجة ذلك حدوث انقلابات عسكرية بدوافع عشائرية ، ففي عام 1992 حدث انقلاب عسكري من قبل ضباط جبورين ، و في عام 1995 حدثت محاولة انقلاب من قبل ضباط من الدليم فأعدم أحد قادتهم وكذلك ماحدث من تدمير لعشائر الرميثة في عام 1998 .
 إن المجتمعات ذات الثقافة الفحولية الممزوجة مع القيم الاجتماعية البدوية و التفكير الديني السائد هي أكثر المجتمعات كارثيةً و دمويةً ، فأفراد هذه المجتمعات لا يرفضون الظلم و الاستبداد من منطق أخلاقي ، لا يرفضون الظلم الموجه للفرد و قد يتحملونه ، و لكنهم يقيمون القيامة إذا ما شمل الظلم عشيرتهم أو طائفتهم و القائمين عليها المتحكمين في أمرها و أمرهم ، إنهم يفكرون كجماعات ، و ليس كأفراد ، و من هنا تكمن سهولة السيطرة عليهم و إخضاعهم و استخدامهم أدوات طيعة في خدمة المستبد العادل أو المستبد الجائر و كلاها على كل حال مستبد

 ففي عام 1996 أوكل النظام العراقي إلى العشائر مهمة فرض الأمن و جباية الضرائب و إقامة الحدود في مناطقها مقابل تسليحها ، و رد الأراضي المصادرة منها سابقاً ، إنه وضع مشابه لبعض العائلات الإقطاعية أو العائلات المبروكة التي كان السلطان العثماني يعطيها الامتيازات و يعفي أبنائها من الخدمة العسكرية و الجهاد المقدس , مقابل خدمات خسيسة كانت تؤديها إلى السلطة العثمانية و الباب العالي .
 ان الفوضى السياسية التي صاحبت الاحتلال الجنبي للعراق ادت الى نمو نمو شبكة عنكبوتية من المنتفعين و السماسرة و البيروقراطيين و المفسدين في الأرض الذين أصبح وجودهم بمثابة عقبة حقيقية أمام أي برنامج إصلاحي ,كما ان محاولة تجنب سلطة العشيرة تنتهي إلى عشيرة السلطة , كما إننا مضطرون لخوض التجربة الديموقراطية مع الاعتراف بأنها تجربة بشرية لها مساوئها و محاسنها , ولكن استمرارية هذه التجربة هو الضمان الوحيد لتقويمها , و بحيث تتزامن مع برنامج تنمية بشرية واضح الأهداف و محدد التوقيت يشمل التربية و التعليم و الصحة و الإسكان و الاقتصاد و قضايا تحرير المرأة وتنمية ثقافة حقوق الإنسان و المواطنة .
 أثناء انتخابات الجمعية الوطنية للدورة الاولى , فوجئنا بمظهر مشابه للفترة السياسية البائدة في المدن العراقية – وهو تزاحم الزعامات القبلية وشيوخ العشائر على اللوحات المخصصة للإعلان عن الحملة الانتخابية , و قد فاض بهم العدد. إنهم مرشحين مضموني الفوز بفعل قوة العشيرة الهائلة التي تقف خلف كل واحد منهم .

 وبالرغم من السلبيات التي تلازم التوجه العشائري الا انن نجد اليوم الكثير من الوقائع والتاثيرات التي اسهمت بشكل مباشر او غير مباشرفي وضع العشيرة العراقية لمفاهيم جديدة تفرز مفهوم المواطنة وتبتعد عن مفاهيم العصبية الضيقة مفتوحة على رحاب المجتمع الارحب لتحدد مع مجموعات كبيرة من عشائر العراق نابذة خلافاتها لتسعى لتقديم خدمات مجتمعية انسانية كاسهام البعض في حماية خطوط الانابيب النفطية وابراج الاتصالات او اصدار قرارات ضد من يرتكب جرائم بحق الناس او الاسهام في حل المشاكل الاجتماعية التي باتتت تهدد كل بيت عراقي .

 وعلى صعيد آخر نجد ان رؤوساء العشائر اليوم يساهمون بشكل فاعل في صياغة العملية السياسية حيث تحتل العشيرة في ظروف الازمات وغياب الكيان السياسي لسلطة الدولة الركن الاساسي في بلورة صورة المجتمع المدني بمفهومه الحديث وقد تجسد هذا بكل واضح فيما تلعبه العشيرة من دور في فرض اليات الضغط المجتمعي وخصوصا بعد سقوط النظام العراق بعد 9ابرل 2003

 وبناءا على ذلك التزم مشرعوا الدستور باصدار المادة 43 في الفقرة ثانيا اكدوا فيها على حرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية والاهتمام بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون وتعزيز قيمها الانسانية النبيلة بما يسهم في تطوير المجتمع ومنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان .

 وبذلك فنحن نتطلع الى ان تستمر العشائر في عطائها الايجابي للمجتمع العراقي من خلال حفظ النظام والامن ونبذ الاعراف التي تتنافى مع الحضارات الانسانية القيمة واحترام حقوق الانسان والعمل على تحقيق آمال الفرد العراقي سواءا كان طفلا او شابا او امراة او شيخ كبير .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com