شدّوا الحزام

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

كنت أتسلح بمبلغ خيالي لايتجاور خمس ليرات سورية فقط لاغير في أواخر السبعينات، وأدلف مزهوا بها، من إحدى مدن الصفيح وتجمعات البؤس والفقراء، حيث هدرت معظم هذا العمر المسفوح بالمجان في سبيل انتصار الثورات، لأدفع منها أجار باص الـ"هوب هوب" هدية الثوريين الأبطال القيّمة للمواطنين الكرام والذي كان "يُحشر حشرا " بالركاب كالمكدوس والكوسا محشي، ومخلل الخيار، وأتناول سندويشة فلافل محترمة من الحجاز، وصحن "نمورة هريسة" من الصالحية، ولا تنسوا السجائر والقهوة من مقصف الآداب، وأعود مساء نافشا ريشي بما اكتسبته من "علوم الفرنجة الأوغاد" لأنام على حلم "خمسة" أخرى ليوم جامعي جديد.
ضاع زمن الخمس ليرات الزاهي،برغم بؤسه، وأعتقد أنه، من الآن وصاعدا، سنكحل أعيننا يوميا برؤية عتاولة الإقتصاد الاشتراكي الموجه، وهم يطلون علينا من على أثير الشاشة الوطنية، ليعلنوا عن سلسلة إجراء جديدة من عمليات شد الحزام، في الحرب الضروس مستعرة الأوار بين الليرة والدولار، والتي يبدو أنها تتجه لتقدم الأخير وبكل حرقة وأسف، والذي يعني بالمحصلة تراجعا للمستوى المعيشي للمواطنين الفقراء، وانضمام جحافل جديدة من أبناء الشعب المسكين البائس إلى قوافل الفقراء، لتقوم، عندها،المنظمات الدولية مشكورة بإجراء الدراسات عن وضعهم الإنساني المزري,وتقديم الإحصائيات والأرقام عنهم للمجتمع الدولي،ليتفحصها الخبراء الدوليون بإمعان، وسترتفع ولا شك عندها ,وبحمد الله، نسبة الفقر لتصل الستين بالمئة حسب تقدير بعض الألمعيين الشطار. والذي يعني، بدوره، أيضا فشلا لسياسة رفع مستوى دخل الفرد المتفائلة والطموحة لمستوى الـ1300سنويا التي أزمع القيام بها في وقت سابق، فيما لو وصل الدولار لمستويات قياسية أمام الليرة. ويعني هزيمة أخرى نكراء لشعار ثوري آخر وهو "رضينا بالفقر والفقر ما رضي فينا". وهذا بالطبع سيمس شرائح عريضة من المواطنين ويرميهم على ضفة الإفلاس، هكذا ودون مقدمات، حتى ولو كانوا من أصحاب الإدخارات البسيطة والمتوسطة بطبيعة الحال. وللعلم فهذه هي الإطلالة الثانية لنفس الشباب, ولنفس المناسبة,والأسباب، وبفترة لم تتجاوز الأشهر الثلاث.
وكم كنا نتمنى أن تكون تلك الإطلالات السمحة الغراء للتبشير في فتوحات حقيقية في فضاءات السياسة والعلوم والاقتصاد وتحقيق نسب للنمو، وأرباح، وإبرام عقود لمشاريع اسثمارية طويلة الآجال تنعكس على الصالح العام، وليس للتهويل وبث الأخبار السوداء، وإطلاق نذر الشؤم والخراب. وفي حقيقة الأمرلم يبق حزام نشدّه ولا بطن يشد عليه أي شيء على الإطلاق,كما لم يبق عزم، وقوة لفعل "أي شيء" على الإطلاق، وإلا كان "تكرموا يا شباب"،ونبشركم أيها السادة الأفاضل الكرام، بأن الجيوب الخاوية العزلاء، والحمد لله، تصفر فيها الرياح صفرا لتقدم أعذب لحن لسيمفونية الإفلاس الوطني العام، وأوبرا مستنقع الأحزان والتعتير والتشحير التوتاليتاري الطفران التي تفوقنا بها على تشايكوفسكي وباخ، وبالكاد يستطيع المواطن "اللهتان" أن يؤمن الخبزات والملحات واللبنات يوميا، وأبسط متطلبات البقاء. وكل هذه الإجراءات لا تعنيه بحال،لأنه لا يملك شروى نقير، أو قرشا واحدا، فما بالكم باليورو والدولار، بعد أن أطبق الفهلويون الشطار على آخر دولار. ونتمنى ،وبصدق وإلحاح، ألا يظهر أحد منهم على شاشات التلفاز، لأن ذلك سيعني حكما، كارثة جديدة، وهمّا، وبلاء.
ومسلسل انهيار الليرة بدأ منذ مطلع الثمانينات حين بدأت السياسات تتسم بالتحجر والانغلاق، والأوضاع بالاشتعال. وحين تم تعييني مدرسا، وقتذاك، في إحدى مدن الصفيح الفقيرة أيضا، كنت أتقاصى حوالي الـ 1200 ليرة سورية في تلك الأيام أي ما يعادل 300 دولار بأسعار تلك الأيام كانت تكفي المرء للعيش بشكل مستور. وهذا المبلغ الهزيل، في معايير هذه الأيام، لايستطيع أن يؤمنه لنا هذا الاقتصاد الآن، ويضع الخطط الخمسية، ويستعين بالخبراء من كل مكان للعودة إلى راتب بداية الثمانينات. وهذا ما حدا بنا أيضا للخروج في "غزوتنا الإقتصادية"، وليفرح أحبابنا الأصوليون على هذا التعبير، إلى قلب الصحراء من بلد الخصوبة والجمال، لإسكات البطون الجائعة، وسد الأفواه الفاغرة. وياليت نستطيع العودة لتلك الأيام، حيث لم يعد التفكير بالمستقبل مجديا على الإطلاق، بعد أن اكفهرت الأجواء، وتلبدت السماء، وسُدت جميع الطرقات، وشكرا على أية حال، على هذه الإنجازات، التي أتمنى أن نكتفي بها، وحرام كفاية "بقى" يا شباب.
وبالأمس أيضا خسرنا خسارة رياضية مريرة, ومهينة أخرى أمام منتخب الإمارات بثلاثية للاشيء، ونعجز أن نسجل أي هدف، وفي أي مرمى، ومكان، وصار اسمنا مرتبط دوما بالخسارات, والخروج المذل من كل مكان. ولا يدري المرء لماذا يلعبون في السياسة، والاقتصاد، والرياضة، وحتى في لعبة "الاستغماية أو الطميمة"Hide and seek ، طالما أن النتيجة ستكون معروفة ومحسومة ،سلفا، وقبل أن ننزل لأي ميدان. ومن المعروف تماما أن الوضع السياسي ينعكس على كل شيء، وأولاً على الاقتصاد، ولا حقا على الرياضة، وباقي مجالات الحياة، ولا أعتقد أن هذا يفوت على السادة النجباء خبراء الاقتصاد، من خريجي هارفارد، وأوكسفورد، وجورج تاون.
لا شك أنه عندما يستقر السوق السياسي المضطرب دائما، وأبدا، سيستقر، طبعا، سعر صرف الدولار,وتستقر معه كل الأحوال, وعندما يعي الساسة مدى ترابط السياسة والاقتصاد والاجتماع، سينعكس ذلك بالإيجاب ليس على الوضع الاقتصادي والدولار، بل والرياضي حتما، أو حتى على ورشات تصنيع المكانس، و"مقشات البلان"، وعند جارتنا أم حسن التي تنتج سلعة الشنكليش،ودبس الرمان، وسيكون من المنطقي، وقتذاك، التفكير، جديا، ليس بالفوز على غينيا الوسطى، وبورما، والإمارات، بل ربما سحق المنتخب البرازيلي، وفي ساوباولو، بالذات.
اللهم إنا نعوذ بك من التلفاز، والخبراء، وأخبار السوء، وشدوا الحزام يا....شباب.
 

 العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com