نجوم خلف القضبان

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

أن ترى عتاة المجرمين واللصوص والقتلة يرتعون وراء القضبان لينالوا جزاء ما اقترفته أياديهم بحق الناس من شرور وآثام، فذلك ليس مدعاة للأسف والندم على الإطلاق. أما أن ترى نخبة العقول، وأكثر الناس إنسانية، ووطنية، وحبا، وإبداعا خلف القضبان، فإن ذلك، لعمري، مصيبة، ونكبة كبرى توحي بأزمة مستعصية، ولغز كبير لا يجد له المرء، من جواب شاف، أو تفسير على أية حال.
إن فلسفة السجن تقتضي بالدرجة الأولى إصلاح المفسدين، وردع الشاذين، وإعادة تأهيل المنحرفين. فما بالك بمن يسجن مشاعل النور، والمصلحين، وأصحاب الفكر والضمير، ورواد المجتمعات، ومفكريه. ويصبح السجن في هذه الحالة الفريدة واللامعقولة محاولة فقط لقهر الذات، وترويض الإرادة، وتدجين المردة، وتحطيم النفس،وسحق الروح، وتمريغ الكبرياء، ووأد الحياة في نفوس الناس، وتحويلهم لهياكل آدمية بدون أرواح، أوإرادات، وإلى قطعان هائمة ، وأنعام نائمة، ومطايا جاهزة للركوب والقياد، ولا يهم عندها من هو الفارس، والخيال.لأن المطلوب، في النهاية، وطن من العبيد والقطعان المستلبة، والرعايا المهمشة سهلة القياد، وفاقدة الإرادات ترهن مصيرها لأي كان.
لكن، وبكل فخر واعتزاز، وانتصارا لعزة الرجال، وعزيمة الأبطال، والنفوس الأباة، لم تستطع سنوات السجن، والقهر النفسي أن تهزم إرادة الصديق والفنان عبد الحكيم قطيفان، وبدا وهو يتكلم في حلقة أدب السجون التي بثتها قناة الجزيرة عشية الخميس الماضي، وبتلك الروح العفوية السمحة الطيبة، تماما، كما عرفته من زمان، ويدين من جهة أخرى، وبشكل غير مباشر، تلك العقلية الأمنية التي حبسته زمنا طويلا خلف القلاع وفي الظلام في ظروف إنسانية وضيعة ومهينة، معلنا هزيمتها، والنصر عليها بآن. إنه نفس الشاب الذي ينضح شبابا وفتوة وكبرياء,وبروح الدعابة، والوجه الباسم الصبوح، في سنوات الفتوة أثناء دراستنا الجامعية في جامعة دمشق حيث تزاملنا، ونشأت صداقة أعتز بها مع هذا الفنان السوري اللامع، ولكن سرعان ما عصفت بها ظروف الحياة، وضاع كل منا في زحمة الصعاب، إلى أن التقيته في مرة يتيمة خلال الخمس والعشرين سنة الماضية في اللاذقية، وفي هذه المرة الصاعقة أيضا على قناة الجزيرة، ناهيك عن عشرات المتابعات، على الشاشات، من خلال مسلسلاته التي برز فيها بشكل لافت في الدراما السورية المميزة، التي شقت طريقها بنجاح برغم صعوبة المناخات، والحصار الذي يعاني منه الإبداع، والمبدعون في سورية بشكل عام، و"تسلبط"، وتحكم الكثير من الرقباء والأوصياء,وأمزجة "العصملية" والأغبياء على الموهبة، والفكر، وثنايا الدماغ في عالم الأمن والاستخبارات، في محاولة يائسة لتطويعها خدمة لتيار سياسي فج، عقيم، وبال أصبح في حكم الماضي، ومع الأموات.
وتعود صداقتي مع عبد الحكيم إلى أواخر السبعينات، وأوئل الثمانينات، في جامعة دمشق، ذلك المعقل الجبار، والصرح العلمي البارز الأخاذ الذي خرّج مئات النجوم الذين يملؤون فضاءات الكون ،الآن، عطرا، وحبا،وتألقا، وإنسانية، وإبداعا، وبالتأكيد فإن الفنان الكبير عبد الحكيم قطيفان، أحدهم، وليس استثناء من هؤلاء. وكم أمضيناردحا من العمر في تبادل الحديث، والأفكار، والضحكات، في مقصف الشهيد الأرزوني في قلب الجامعة حيث كان موئلا, وفسحة للكثير من الطلاب، ولكوكبة أخرى من الزملاء والأصدقاء الذي يشغلهم الصالح، والهم العام. ولا أنسى، أيضا، تلك اللحظات الرومانسية الحالمة الرائعة في أماسي دمشق الدافئة، الحالمة، والحميمية في مقهى "اللاتيرنا"، القنديل الذي كان يضم النخبة السورية المثقفة، حيث كان ملتقى لهم، وتحكي فسحة هذا البيت الدمشقي العريق،بمزيج من عبق التاريخ، وحداثة وروعة الحاضر الكثير عن هذا النسيج السوري الفريد حيث كان يتم عرض الجديد والإبداع، وتناقل الأخبار، والالتقاء بالنخبة المثقفة آنذاك بين الأصدقاء السوريين الذي يطغى على جلهم التميز والإبداع، ومعظم الأسماء الكبيرة، في الفكر والفن، التي من الممكن أن تخطر على البال الآن، ربما مرت ذات يوم، ووجدت لها محطة، وكان لها بصمة، وذكرى، ولقاء هناك.وفي اللاتيرنا الكثير من القصص، والحوارات، والذكريات، التي لو قيض لجدرانه أن تحكي، لروت معلقات طويلة عن تلك السهرات, واللقاءات التي لا تغيب عن البال، ولا يمحوها طول الأيام.
ولا أنسى أبدا صوت الصديق العزيز عبد الحكيم وهو يقلد الشاعر الزجلي السوري الآخر حسين حمزة، حين كان يلقي أشعاره بتلك المسحة البلدية الرائعة،والنبرة المحببة، واللكنة المحلية التي تسكر الأحجار، وتطرب الأموات. وكم كنت أطلب منه أن يعيد لي مرات وكرات، بصوته الأجش الثابت، كلمات شاعرنا المبدع، ومفرداته العفوية الصادقة التي تخرج من قلب الأرض لتدخل صميم الفؤاد، ولم يكن يعتريه الملل، أبدا، من كثرة طلباتي التي كانت، طبعا، على خلفية الإعجاب المطلق، وبنفس الدرجة العالية، بالشاعر الكبير حسين حمزة، وبالفنان اللامع عبد الحكيم قطيفان.
لم يكن من الحكمة أبدا، وتحت أية حجج وتبريرات تغييب مبدع، وفنان كبير كعبد الحكيم كل هذه السنوات، ولم يأت هذا الفعل العليل سوى بالسوء، والحرج، والخيبة على فاعليه بالذات، ولم ينتقص السجن من قدر هذا الرجل الخلاق، بل ربما رفعه درجات في سلم الشرف والمواقف الناصعة البيضاء، وإن يكن قد سبب له عطلا وتأخيرا في حياته في جزء ما. كما أنه ليس من الرجولة مطلقا الاعتداء على السكان الآمنين، والأبرياء، والمفكرين والأدباء والتعامل معهم بهذه الطريقة البدائية، التي تذكر، فقط، بعصور الهمجية والقرون الوسطى والانحطاط، بل على العكس إن وجود هكذا مناضلين وشرفاء، في صف أي نظام، يقوي من ركائزه، ويعزز من أسسه، ويكسبه مصداقية كبيرة، ويقويه، حتما، في مواجهة الأعداء، وهذا ما نفتقده، ونبحث اليوم عنه "بالفتيل والسراج"، في ظل هذه المواجهة المريرة الطويلة والعبثية مع الذئاب التي تحوم حول جسد الوطن العزيز من كل مكان، والتي نتمنى جميعا، ومن القلب، أن تنجلي، وبأقل الخسائر الممكنة على سورية القلب, والوجع، والوجدان.
وللصديق الفنان، والأخ العزيز عبد الحكيم قطيفان،وزميليه الكريمين، تحية حب، وتضامن، وإعجاب.
 

 العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com