|
كلمة الجعفري في القاهرة علي آل شفاف الأجدى من مدح أو ذم ذات شخص ما, أو تقييمها؛ هو مدح أو ذم أفعاله وأقواله, أو تقييمهما. لأن تقييم الفعل والقول يحض على تصويب الخطا, وإدامة وتعضيد الصواب؛ مما يعين الشخص ـ الذي يكون فعله أو قوله موضوعا للتقييم ـ على تحري الدقة والصواب في الفعل والقول, عن طريق تلمس ردود الأفعال التي يستحثها هذا الفعل, أو ذاك القول. بينما يفترض تقييم الذات علما ببواطنها, وهذا ما لم ولن يدعيه أحد. دعاني يوما ما أحد الأفاضل للكتابة عن واحد من سياسيينا الكبار, فترددت كثيرا, لأنني لا أحب أن أكون مداحا؛ فأرسلت له مقالا مرتجلا ـ في آخر لحظة ـ حاولت أن أكون فيه متوازنا في عرضي لحال ذلك السياسي, وإن كنت متعاطفا معه, إلا أن التعاطف شئ, والتقييم الموضوعي شئ آخر. إن أصدق المدح ذلك الذي ينتزعه (الفعل أو القول) الممدوح انتزاعا. . استحقاقا منه وجدارة, وهذا ما فعلته كلمة الدكتور إبراهيم الجعفري الذي أعطته الفصاحة ـ في القاهرة ـ قيادها. فقد تجلى فيها العقل الأصيل, واللب الرصين, والقلب الواعي؛ فتكلم الشعب على لسانه, فأبدع في ارتجاله, بما لم يدانيه آخر من بعد روية وتأمل وصناعة. فكانت حقا ـ في هذا اليوم ـ لسان حال الشعب العراقي الناطق. لقد بدأ بعد الآية المباركة بكلام رائق المشرع, عذب المشرب, حسن الانسجام؛ يرتفع له حجاب السمع, فيدخل الآذان بلا استئذان؛ وكأنه ممر الصبا على عذبات الأغصان. رقيق سائغ رشيق, ذلك هو كلام القلب من القلب إلى القلب. فالذي تكلم كان قلب الجعفري وليس لسانه ـ هذا ما أحسسته أنا على الأقل. وبعد أن صال وجال, في دروس وعبر, لمن تعلم واعتبر؛ تجافى عن مضاجع الرقة, وتجانف عن مذاهب السلاسة؛ فجاء بكلام كالثوب المحبوك, والبنيان المرصوص فحولة وفخامة وعزما. فانهال على أسماع الطغاة بما تستخف عنده جلاميد الصخور, وتعبر دونه واسعات البحور. ويستعذب دونه سم الأفاعي. فزجر وردع ومنع, بعد أن رغب وحبب وطبب. فقد صدق وأجاد في أن الوحدة والمصالحة والإطمئنان والثقة مصدرها القلب الجامع, لا العقل المانع. فالعاطفة الإنسانية واحدة عند كل من يجلي عنها غشاوة التعصب والتطرف والطغيان, لكن العقل في ـ عالمنا هذا ـ متعدد بتعدد الذوات, ومتنوع بتنوع الخبرات. لقد كان جريئا وواضحا في تفنيد دعاوى القتلة والمجرمين, في أنهم مقاومون (للاحتلال)؛ لأنهم يقتلون الإنسان العراقي, ويخربون البنى التحتية للبلد, ويدمرون العراق بالكامل, تحت شعار "إما نحكم أو ندمر كل شئ". إن المقاوم الحقيقي هو الذي يسعى لحماية الشعب العراقي من بطش الديكتاتورية, وذيولها المتمثلة في الهمجية والتطرف والجريمة من جهة, وتبعاتها كالوجود الأجنبي من جهة أخرى. كما أنه تجاوز عقدة النقص التي تتملك الكثيرين من مثقفينا, خضوعا وتأثرا بالآلة الإعلامية المصرية؛ ليضع العراق في موضعه الحقيقي, في الدرجة الأولى من سلم الحضارة الإنسانية, لتأتي مصر بعده. وقد صدع بها في عقر دارهم: أن الحضارة الإنسانية الأولى كانت من أهوار الناصرية والعمارة, ثم جاء الفراعنة. ولعمري هذا كلام تتفتق الوطنية من جوانبه, بلا نفاق ولا مجاملة لأهل الدار على حساب تأريخ العراق. لقد ارتقى الدكتور الجعفري في خطبته هذه من الإسلوب التعليمي "البيداغوجي" المعتاد لديه, إلى الأسلوب الخطابي "الديماغوجي". لعلها بداية لنشوء شخصية "كاريزمائية" يفتقدها العراق الحالي. لكني لا أعرف إن كان سيوفق في ذلك أم لا, إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار شخصيته المتدينة, وميوله نحو الزهد والتقوى والورع الذي يمنع من حب الشهرة. لكن الذي يدفع بالإتجاه المعاكس, والذي لا يعارض صفات التدين أعلاه, بل ومما يدفع باتجاهها, هو مصلحة الشعب أو الإنسان العراقي, والمصلحة الوطنية العليا, التي تبحث عن شخص يمتلك "كاريزما" يلتف حوله الرأي العام . . فهل ينجح في ذلك؟
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |