بغداديات .. عرف الخير أهله فتقدّم

 

بتوقيع: بهلول الكظماوي

bhlool2@hotmail.com

الحكاية والقصّة الشعبيّة والدعابة والنكتة والطرفة منذ الأزل ولا تزال الى ما شاء الله فاكهة المجالس والتجمعات سواء عند الملوك والامراء والوجهاء، وعند الفقراء والمعدمين.

و هذا لا يعني إنها ولدت من فراغ، بقدر ما تعني إنها وليدة حكمة وتجربة شعوب على مرّ العصور والازمان.

ربما تستغل القصة والمثل والطرفة لأغراض هدامة، وربما تستعمل لاجل سفاهة ولربما توضّف لاجل امتحان واختبار، والاختيار والترجيح بين نقيضين ومتماثلين.

و لا يكاد شعب من الشعوب يخلوا منها, سواءً كانت مرحة وحزينة.

هناك شعوب تضحك على اتفه نكته ودعابة حتى وان كانت ( بايخة) كما يسميها المصريون، و( فاهية ) كما يسميها العراقيون.

و بما أن حديثنا يدور حول العراق، وما أدراك ما العراق، فان العراقيين لا يضحكون فرحاً ولا يبكون الماً إلا إذا كانت النكتة والدعابة والمثل الشعبي قوياً لاذعاً ( يدك بالعظم ) يصل حتى العظم.

و قصّتنا اليوم ( عرف الخير أهله فتقدّم ) هي واقعة من وقائع التأريخ السياسي العراقي، وبطلاها هما الشاعرين الراحلين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، أما الذي حبك خيوطها وأدار جلستها من سيناريو واخراج...الخ: فهو الراحل فيصل الأول ملك العراق آنذاك، ( رحمهم الله جميعا ).

كان الصراع على اوجه، والسجال محتدم ما بين الشاعرين العملاقين، فأراد الملك فيصل أن يتعرّف على نزاعهما عن قرب، فعزمهما إلى وليمة دعاه دهائه أن وضع لهما الطعام في طبق واحد ليأكلا منه سوية، واعتذر هو ( الملك ) عن الأكل معهما بحجّة ( البهريز ) الحمية وانه يتبع نظام صحي خاص للأكل حسب رأي الطبيب لينظر ماذا سيفعلا ن إذا تقابلا على الطعام ؟ وهل سينغّص أحدهما راحة الآخر، أم سيتركا سجالهما وصراعاتهما لما بعد الطعام ؟.

و المعروف عند أهلنا بالعراق مثلاً يقول: عند البطون تعمى العيون ! أي يكون حينها مشغولاً بالأكل عن النظر حتى وأن جلس خصيمه قباله على السفرة.

كان الطبق الذي قدّم بين يدي الضيفين عبارة عن ( بلم ) صحن كبير متللاً بـ ( التمّن ) الرز العنبر بالدهن الحر مخلوطاً بالـ ( الكشمش ) الزبيب واللوز المحمّص تعلوه دجاجة سمينة محمّرة.

جلس الشاعران الضيفان قبالة بعضهم البعض وشرعا بالأكل.

اخذ الزهاوي يأكل الرز من أمامه ليحدث فراغاً تحت الدجاجة كي تسقط بأكملها بالحفرة التي أحدثها نتيجة أكله الرز الذي أفرغه منها في جوفه.

و لما سقطت الدجاجة في نصف الصحن المقابل له، حينها قال الزهاوي شطراً من بيت شعر: عرف الخير أهله فتقدّم !

فاستفز القول الرصافي، فما كان منه الاّ واكمل عجز البيت قائلاً:

 كثر النبش تحته فتهدّم.

حينها ضحك الملك فيصل بملئ شدقيه ليقول لهما: ( انكاركم وصل لهناه ) أي: هل وصلت مشاحناتكم ونزاعاتكم حتى إلى مجلسي هذا وعلى مائدتي ؟

بالطبع خرج الشاعران العملاقان من البلاط الملكي يداً بيد بعد أن تصالحا بحضرة الملك، خرجا وهما يمسكان يداً بيد وعادت الأمور إلى مجاريها، ولم يعد بينهما خصام بعدها ثانية.

و ألآن عزيزي القارئ الكريم:

تذكّرت هذه القصة البغدادية الواردة اعلاه وانا اتابع على مدى خمسة ايام ما حصل في لقاء الجامعة العربية من تقريب لوجهات النظر بين الفرقاء العراقيين المختلفين لاول مرة بعد قطيعة وحروب كلامية واعلامية.... الخ.

و أنا باختياري الشطر الأول من الشعر ( عرف الخير أهله فتقدم ) عنواناً لمقالتي، ولم اختر العجز: ( كثر النبش تحته فتهدم ) إنما انظر إلى النصف المملوء من الكأس املاًً وبمعيتي الغالبية من أبناء شعبنا في إكمال أقصى المستطاع للنصف الفارغ منه.

فقضية التقارب الذي حصل في الجامعة العربية ليس بهذه البساطة التي نتصورها كبساطة المصالحة بين الشاعرين أعلاه حتى نستحضر روح الملك فيصل ليوفق ويصلح ذات بينهما.

حتماً أنا وكل أبناء شعبنا المكلوم ومن كل فآته وأطيافه ننشد السلم والطمأنينة والأمان لشعبنا وو طننا، اذ كنا دائماً وابدا ًمهلّلين ومرحبين لهذا الصلح المأمول، ولكن على اسس قوية ومباحثات مستفيضة وابذال الجهد الجهيد ليس في ايقاف التراشق الكلامي والحملات الاعلامية فحسب، بل وضع خطوط حمراء وعقوبات قاسية تطال أي جهاز إعلامي يعود لاستعمال التخرصات والتخرصات المضادّة والتحريض على العنف والتفرقة كائناً من كان وأينما وجد.

و مروراً بالتحقيق وكشف المفسدين والارهابيين القتلة المنتهكين لحرمات أبناء شعبنا العزّل ومن أية جهة كانوا وبدون أي استثناء، وانتهاءً بإنزال اقصى العقوبات بالقتلة الذين يستبيحون الدماء البريئة ويهتكون الاستار المصونة ويتسببون بارباك الحالة الامنية ويعطلون اعادة اعمار الانسان العراقي والوطن العراقي،

و الذي لا يستفيد من كل هذه الفوضى والقتل والدمار الاّ الاحتلال الأجنبي في إطالة أمد استعماره لنا وألهيمنه على كل مقدراتنا الوطنية والإنسانية.

و دمتم لأخيكم

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com