|
آخر المطاف: ( َشط َ المقام’ بسعدى وانتهى الأمل’ ) / وداعا للكتابة والسياسة وداد فاخر* / النمسا
ذلك زمن طويل منذ كنا صبيانا يافعين نتدافع للمشاركة في كل النشاطات والمسيرات الجماهيرية الحقيقية التي كانت تهتف لثورة وقائد تموز البطل الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم. ويوم شهدت بأم عيني وإنا بعد صبي أول جريمة تنفذ أمامي في سوق الخالصي في الكاظمية، في قتل كاسب معدم كان يبيع الشربت في سطلين أمامه، بحيث أختلط دمه مع الشربت الأحمر الذي يبيعه وكنت قادما برفقة جدتي ومجموعة من العجائز لزيارة أبو الجوادين، لماذا لأنه بنظر جماعة الخالصي شيوعي ؟. هذا المشهد المرعب جذبني بقوة للتعاطف مع طبقتي المسحوقة، وجعلني أتحمس أكثر للذهاب بعيدا في إسناد وتعضيد طبقتي العاملة العراقية، واترك بتصميم أولى خطوات البدء للدخول في نهج الطقوس الدينية. ويوم تركت الوطن قبل 28 عاما كنت احمل في داخلي نفس التصميم الأكيد لمقارعة الدكتاتورية الفاشية العنصرية، بحثا عن أجواء الحرية التي أتوق أنا وغيري من الشباب آنذاك لترسيخها في الوطن الحبيب، غير مباليا بمن تركتهم في الوطن من ورائي من أطفال صغار استنجد الشاعر الحطيئة بواسطتهم بالفاروق عمر وهو يخاطبه ( ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ ..... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ). فقد كان هدفنا إشاعة الحرية والحب بين الناس، ووأد الدكتاتورية الفاشية المقيتة. فنحن آنذاك كما قال شاعرنا ( الحب في الأرض بعض من تصورنا....... لو لم نجده عليها لاخترعناه ). وطوال تلك الحقبة الزمنية الطويلة التي أعطت للدكتاتور والدكتاتورية الفرصة لمزيد من القتل والتدمير نطمح للعودة يوما ما للوطن الذي أثخنه القتلة وازلامه جراحا وزاده تخريبا. وكنا وكلنا أمل بالرجوع للوطن والتمتع برؤياه واحتضانه من جديد فهو الأم الرءوم التي لا مناص من العودة لحضنها أحياء أو أمواتا. وهو ما دار بخلدي وأنا أقف على الجهة الأخرى من شط العرب في بداية العام 1992، وفي مدينة خرمشهر الإيرانية التي سواها ( بطل الأمة العربية وفارسها ) مع الأرض، عندما نظرت بألم وحسرة لنخيل البصرة من بعيد وهو يقف شامخا على ضفاف شط العرب وأنا امني النفس بالتجوال في البصرة ولو ميتا محمولا على الأكتاف، مخترقا محلاتها ودرابينها القديمة بدءا من محلة القبلة مرورا بالسيمر والعشار حتى محلة 5 ميل. لكنني صعقت وأنا أجول في البصرة في العام الماضي واردد قول احمد عبد المعطي حجازي : ( لما تحررت المدينة عدت من منفاي ..... أبحث عن دار وعن صحب لنا فاستغرب الناس السؤال ). فعدت بعد أن خاب أملي في وطن يتناهبه الجميع، وفق مقولة الشاعر ( قد بدلت أعلى مساكنها سفلا ... وأصبح سفلها يعلو)، وهو ما تركني نهبا للحزن والألم والخيبة، وجعلني أعود أدراجي حزينا فـ ( الدنيا لمن غلبا ) كما قال الشاعر قديما. ورحت أدندن مع نفسي برنة حزن ( عن حال حالي سألت حالي .... وعن عين عيني سألت عيني )، هكذا هي الدنيا فلم العتب !!. وها هي أكثر من أربعة عقود تمر صارعنا فيها عهود من الدكتاتورية منذ يوم وطأت أقدام القتلة والفاشيين أرضنا الحبيبة عندما ترجل ( ثوار شباط ) من القطار الأمريكي الذي أقلهم لبغداد الحبيبة فخربوها ما شاءت لهم أنفسهم السادية المريضة العفنة، ليعود نفس السيد الأول ولكن بمباديء وقيم جديدة ليزيحهم عن السلطة التي أحضرهم يوم 8 شباط الأسود عام 1963 للتربع عليها، فماذا تغير ؟. نفس القتلة والفاشيين ونفس النفوس الحقيرة المريضة، ونفس الشخوص المقيتة، تغلغلت بين صفوف الطيبين وعاثت من جديد في أرضنا الحبيبة قتلا وتدميرا، وبنفس مفاهيمها الثورجية القديمة وضمن مصطلح ( المقاومة )، ترى إذن ما الذي تبدل خاصة بعد أن َفصلتْ ( جامعتنا العربية ) " يحفظها الله – مظفر النواب – " رداء جميلا وألبسته لنفس شخوص ورجال الدكتاتور السابقين لإضفاء الشرعية عليها بين تصفيق ( ممثلينا ) الوطنيين وحكومتنا ( الرشيدة )، فهل بقى لنا من قيم غير الذي كنا نردده ونتمناه، وتم التغطية عليه برداء الجامعة الفضفاض ؟!!. وفوق كل هذا يتم التحرك النشط الفعال لرجال وازلام النظام الدكتاتوري الساقط في الداخل والخارج فيصولون ويجولون وبدل أن يكونوا هم المتهمين، يتم تلفيق التهم ضد المناضلين القدامى تحت سمع وبصر القوى الوطنية وممثلي الحكومة العراقية (المنتخبة). ويتم تهديدهم عند سفرهم لرؤية أحبتهم وخطفهم إن تمكن القتلة من ذلك، ويجلس بصلافة عتاة المجرمين مزاحمين المظلومين على كراسي السلطة ووسط ( الوطنيين )، ليظل آل الشهداء والمظلومين دائما وأبدا في مواقع المتفرجين والمحرومين. من كل ما ذكرت أجد نفسي تائها وغريبا وسط معمعة معركة غير متكافئة كانت لنا الغلبة فيها زمن الدكتاتورية، والتقهقر زمن الديمقراطية. لذا وجدت لزاما علي الابتعاد عن مستنقعات السياسة الملوثة، ودروبها الضيقة الملتوية لأجد لي متنفسا في بدايتي الحقيقية في قرض الشعر وكتابة القصة كما بدأت في صباي بعيدا عن السياسة، وما تسببه من صداع للرأس ووجع للقلب الذي شاخ بعد هذا العمر الطويل في العراك الغير مجدي مع القتلة والمجرمين. وستكون هذه الصورة القلمية آخر ما اكتب في السياسة ولن التفت بعد اليوم لما يتقول به أي ممن يتلبس بلباس الوطنيين ويتهم الطيبين من أبناء العراق الحبيب بتهم هو نفسه أحق بها، وسأطلق السياسة والكتابة فيها بالثلاث. وذلك لعمري يتماثل تماما مع ما قاله شاعرنا : َشط َ المقام’ بسعدى و انتهى الأمل .
* شروكي من بقايا القرامطة وحفدة ثورة الزنج متهم بمحاربة الإرهاب
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |