|
كنا قد تحدثنا في الجزء الأول من هذه المقالة عن نوعين أساسيين من الإرهاب في العراق، وفي هذا الجزء نحاول أن نعالج نوعا ثالثا من الإرهاب لم يحسب على أنه نوع من الإرهاب لحد الآن، في حين هو من أبشع أنواع الإرهاب الذي يمارس في العراق وكذلك نحاول أن نضع تعريفا شاملا للإرهاب من خلال التجربة العراقية فقط. النوع الثالث للإرهاب في العراق يتمثل بالمليشيات التابعة للأحزاب التي تشارك بالعملية السياسية وخصوصا تلك التي تنتشر في الجنوب وفي بغداد العاصمة، حيث بلا أدنى شك تعتبر هذه المليشيات أهم أدوات ممارسة الإرهاب، لكن بعضا من هذه المليشيات كان مرتبط بالكفاح المسلح المشروع في مرحلة التحرير، فهي في هذه الحالة مليشيا تكتسب شرعيتها من شرعية التحرير بكل أنواعه، ومنها التحرير من الأنظمة الظالمة كنظام البعث المقبور، وحين تعمل هذه المليشيات من أجل إقامة حالة من التوازن في القوى لدرء خطر الحرب الطائفية فهي تعتبر نوعا من الدفاع عن النفس، ومن هذا المعنى تكتسب شرعيتها أيضا، لكن حين تأخذ هذه المليشيات مهمات أخرى كأن تبتز مواقف سياسية معينة من الناس من أجل مشروعها السياسي بقوة السلاح أو أن تحاول إخلاء الساحة السياسية لتخضع إلى نفوذها فقط كما يحدث مع مليشيات الإسلام السياسي في الوسط وجنوب العراق، تعتبر المليشيات في هذه الحالة أحد أدوات الإرهاب الفعالة، فهي بلا شك غير مشروعة. على سبيل المثال وليس الحصر، نجد أن بعض مليشيات الإسلام السياسي في جنوب العراق تحاول أن تقود الناس كما القطيع نحو صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم لقائمة انتخابية محددة أو تزوير صناديق الانتخابات بقوة السلاح، فهي تحاول بهذه الطرق الغير شريفة تزوير أو سلب إرادة الناس إن استطاعت لذلك سبيلا، إن هذه المليشيات دأبت على التعامل مع الناس في الجنوب بوسائل قمعية وكأنها تمتلك السلطة، وقد تأكد أن هذه المليشيات ضالعة في عمليات إرهابية بشكل مباشر كالخطف والاغتيال السياسي والقيام بعمليات عسكرية تستهدف قوات التحالف والقوات المسلحة العراقية وحتى عمليات التهريب للنفط ومشتقاته بالتعاون مع عصابات الجريمة المنظمة، هذا فضلا عن تجاوزها على الحريات الشخصية وتكميم الأفواه لمن يفرع صوته معترضا. هذا النوع من الإرهاب يبدو وكأنه غير مؤثر في الحالة العراقية حاليا، ذلك لأن الجميع يقولون أن الجنوب آمن ولا توجد به مقاومة عند الحديث عن إعادة البناء أو الاستثمار في العراق، لكن في واقع الأمر أنه كما الفايروس الفتاك، يستفحل بعد كمون ربما طويل، أي حين توفر الظروف الموضوعية، ينشط فجأة وبسرعة شديدة ليقضي على الكائن الحي بلمح البصر. إذا هو من أخبث أنواع الإرهاب المستشري في العراق حاليا ونبغي مواجهته بأقسى الوسائل لأن خطره أشد من أشكال الإرهاب التي تمارس حاليا. لنأخذ بضعة أمثلة لمثل هذه الحالة في الجنوب، المثال الأول أحداث الديوانية الأخيرة، حيث بدأت باعتقال مدير الإذاعة المحلية في المدينة مع زوجته من قبل إحدى مليشيات الإسلام السياسي الشيعي في الجنوب، السبب هو امتناع المدير من تخصيص الإذاعة لدعايتهم الانتخابية وتجاهل الأطراف السياسية الأخرى، أما سبب اعتقال الزوجة مع المدير، فهو أنها كانت قد رفضت الزواج من أحد رجال هذه المليشيا وفضلت عليه مدير الإذاعة كزوج لها، فهو انتقام ورسالة غطرسة. لكن خروج خمسة عشر ألف متظاهرا هبوا في المدينة لإنقاذ أبنها البار مدير الإذاعة وزوجته التي لم يمضي على زواجها سوى شهر واحد، كان بمثابة الإنذار لمثل هذه المليشيات بالكف عن ممارساتها القمعية وترهيب الناس، لأن اعتقال مدير الإذاعة وزوجته كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وما هو موجود على أرض الواقع أكثر بكثير من ذلك. دعونا نحسب كم نوع من أنواع الإرهاب في هذه القصة القصيرة جدا: أولا، هذه المليشيا ترهب الناس لكي تسلب إرادتهم باختيار ممثليهم في البرلمان والحكومة في الانتخابات القادمة، ثانيا إرهاب الناس من أجل ابتزاز مواقف شخصية تتعلق بالخصوصية للذات الإنسانية وحق حرية اختيار الشريك الزوج الذي أقرته كل الشرائع ومنها الإسلام، أما الدرس الثالث هو تهديد واضح وصريح لكل من تسول له نفسه عصيان أوامر هذه المليشيات في أي شأن من شؤونهم مهما كانت، فهو سيواجه العقاب الصارم، وربما ما هو أكثر من ذلك، أما الدرس الرابع فهو الأكثر بلاغة، حيث يعني أن القوى السياسية التي تعمل هذه المليشيا من أجلها تعتبر قوى سياسية ذات طابع شمولي لا تقبل بالشريك، وهذا هو الخطر الأكبر على مستقبل العراق، لأن بلوغ قوى سياسية من هذا النوع إلى مواقع متقدمة من السلطة من خلال تزوير أو سلب إرادة الناخب، يعني أن خطر الإجهاز على الديمقراطية أمر وارد في أي وقت مستقبلا، وذلك بعد أن تتأكد هذه القوى من سيطرتها على الأمور لتلعب أوراقها الأخيرة. هذا النوع من الإرهاب يمكن أن نستدل عليه بأمثلة أخرى في الجنوب، منها قتل الجامعية البصراوية وإرهاب الطلبة والمجتمع ككل لإجبارهم على الانصياع القسري نحو ممارسات الإسلام السياسي الجديدة ذات الطابع ألظلامي المتخلف. ولنا بضرب رئيس إتحاد الكتاب في البصرة مثال آخر، وفي الوقع هناك آلاف الأمثلة يمكن أن نسوقها عن ممارسة هذه المليشيات في الجنوب، حيث انها تسيطر على جميع مفاصل الحياة هناك مهما صغرت أو كبرت، حتى أنها تستطيع أن تفصل الجنوب عن باقي مناطق العراق في أي وقت تشاء فيما لو فشلوا بتحقيق أهدافهم من خلال آليات الديمقراطية المزيفة بفعل أسلحة المليشيات. كان آخر الجرائم البشعة التي قامت بها هذه المليشيات هي جريمة اقتحام مقر الحزب الشيوعي العراقي في مدينة الثورة ببغداد وقتلهم لاثنين من أعضاء الحزب في محاولة يائسة لثني الحزب من القيام بدوره الريادي والوطني في العملية السياسية التاريخية وإبعاده عن جماهيره الحقيقية وهم الطبقات الكادحة المعدمة من الناس، حيث أن الغالبية العظمى من أبناء هذه المدينة الصامدة هم من هذه الشريحة الواسعة من الشعب. فقد عانى طويلا أبناء هذه المدينة من تعسف الأنظمة بأشكالها وأخيرا تعسف القوى الظلامية التي تسعى للتفرد بهذه الفئة الواسعة من الشعب ومصادرة أصواتها بقوة السلاح. إن مثل هذه الجرائم البشعة مستمرة من قبل هذه القوى الشريرة البشعة ولن تتوقف مادامت الحكومة تدعم مثل هذه المليشيات وتتستر على أعمالها الإرهابية، بل وتهب للدفاع عنها فيما لو تعرض لها منتقد. وهكذا لم يعد غريبا في العراق الذي اختلط به الحابل بالنابل أن تشارك أطراف تمارس الإرهاب وأخرى ترعى هذا النوع الإرهاب وتتستر عليه في العملية السياسية لإقامة نظام ديمقراطي في العراق، وقد شاهدنا ممثلي هذه القوى السياسية يقفون في مؤتمر القاهرة يتبارون خطابيا وكل منهم يلقي التهمة على الطرف الآخر، وهم في الواقع جميعا شركاء في جرائم الإرهاب العراقي بأشكاله المختلفة. فهل حقا سيولد النظام الديمقراطي من رحم الإرهاب؟ وهل ستتحقق نبوءة ماركس وهيغل بولادة النقيض من رحم نقيضه حين تحدثوا عنها في الديالكتيك؟ وهكذا لا نستطيع إن نجد في العراق مقاومة شريفة فهي بلا أدنى شك تصنف على أنها إرهاب يمارس بأشكال متعددة، لذا فإن الدول التي تدعم هذه المليشيات والجهات السياسية الإرهابية هي أيضا بنفس المعنى دولا إرهابية، فمن يحاول أن يمنح النظام السوري وسام الدفاع عن القومية والمبادئ، فهو بذات المعنى يدافع عن الإرهاب، الأمر لا يختلف مع إيران أو أي نظام عربي يتدخل بالشأن العراقي بشكل سلبي، أي بمعنى دعمه للقوى الإرهابية في العراق، ولا فرق هنا بين إرهابي اليوم أو إرهابي الغد فيما لو جنح أي طرف عراقي نحو الإرهاب بتحقيق أهدافه السياسية مستقبلا. مما تقدم في الجزئين من هذه المقالة نضع هذا التعريف الذي نجده مناسبا لوصف الإرهاب في العراق كمثل جامع على أنواع الإرهاب عالميا. الإرهاب بمعناه السياسي هو أي فعل خارج عن الأساليب السلمية، أي الفعل المسلح أو التهديد بالسلاح أو استعمال أي شكل من أشكال التهديد الأخرى لابتزاز مواقف سياسية أو مصادرة إرادة لجماعة أو فرد من أجل تمرير أجندة سياسية، كما وإن معاقبة الإرهابي أو الجماعة الإرهابية يجب أن يعتبر من المقدسات ولا ينبغي التغافل عنه أو التراخي به، لأن ذلك يعني مشاركة في جرائم الإرهابيين، أما دعم الإرهاب من قبل أي جهة وتحت أي ظرف من الظروف فهو شراكة كاملة بالفعل الإرهابي.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |