الناخب العراقي يولد بين زمنين ـ 4

الدكتور لميس كاظم

lamiskadhum@hotmail.com

 دخل الناخب العراقي العملية الأنتخابية من ابوابها الصحيحة الواسعة واصبح صوته يقرر نجاح هذه القائمة أو تلك. أنها المرة الأولى منذ نشأة الدولة العراقية التي يصبح الناخب العراقي هو عصب الحكومة ومؤسس العملية الديمقراطية برمتها. فكل الحكومات التي توالت على سدة الحكم في العراق لم تعر أية أهمية لصوت المواطن العراقي بل كان المواطن مهمشا فاقد قيمتة التمثيلة داخل مؤسسات الحكم وكانت الحكومات تشكل بقرار فردي أو توافقي أو حزبي ضيق. ومسك ختام تلك النماذج هي الحكومة الصنمية التي كانت تفوز بنسبة ثابته غير قابلة للتعديل والتصحيح وهي 99.999% بصمت ديمقراطي قمعي. كانت حياة الناخب العراقي مهدده في حاله أن اسقط في صناديق الأقتراع لون الورقة الانتخابية المغايرة للون الورقة المخصصة لانتخاب الصنم.

 لكن أعتبارا من الأنتخابات الأولى التي جرت في العراق في كانون الثاني 2005 يكون العراق قد دخل مرحلة ولادة ديمقراطية جديدة. إذ ألغى كل اشكال الحكم الشمولي والملكي والحزبي واتجه نحو الحكم الجماهيري الأتلافي الموحد. كما أصبح المواطن لأول مرة هو صاحب القرار في تشكيل الجمعية الوطنية ومنها ينبثق كل الهرم الحكومي.

لقد اعطت الديمقراطية الدور الحاسم للناخب الذي سيدير زمام التحديات الأنتخابية واصبح صاحب حق في أختيار ممثليه في الحكومة. هذه العملية الديمقراطية الفريدة من نوعها في العالم العربي والاسلامي لها اهمية كبيرة في مستقبل العراق السياسي القادم. إذ أن نجاح تثبيت التجربة الديمقراطية ستؤمن حكومات عراقية ديمقراطية منتخبة تحتكم الى صوت الناخب وتخضع لسلطة القضاء وتمتثل بالقانون وتستند الى لغة الدستور الثابت للبلد. انها مرحلة تأريخية جديدة في تأريخ العراق السياسي إذ أغلق الدستور الدائم للبلد الباب، والى الأبد، لكل أشكال أستخدام النفوذ العسكري والحزبي والتأمري للقفز الى سدة الحكم بمفرده أو قدومه بقطار أجنبي.

 أمام هذا النظام الأنتخابي الجديد تبرز مهام جسيمة تقع على عاتق الناخب العراقي بأعتباره صاحب مشروع في تشكيل مستقبل الحكومة القادمة. وبرزت اسئلة وستبرز في المستقبل أيضا:

هل سيتمكن الناخب أعطاء صوته الى ممثله الحقيقي؟

هل سيتفاعل الناخب مع العملية الانتخابة بفهم ووعي كامل لأهميتها التأريخية أم يتفاعل معها وفق حصوله على مكاسب شخصية وأغرائات مادية مؤقته لإنجاح هذا الناخب أو ذاك دون الأخذ بنظر الاعتبار أهمية وصول أناس نفعيين، أنتهازيين الى الحكومة، مثلما يحصل في العديد من الانتخابات في البلدان العربية والاسلامية؟

هل سيقيم الناخب العراقي التجربة الأنتخابية على أنها جزء من اللعبة السياسية الروتينية أم أنها خطوة نحو بناء دولة المؤسسات الشرعية الدستورية في العراق؟

هل حقق المرشحين السابقين طموحه الشخصي وحلوا مشاكله اليومية والحياتية الملحة ام ان وعودهم تبخرت مع أدراج الريح بعد فوزهم.

 هذه وغيرها من الأسئلة بدئت تقتحم عقل الناخب العراقي وتفرض نفسها على هموم الناخب العراقي وأحيانا تؤرقه وتلح عليه لتجد أجابات واضحة وفرضيات لاسباب أنتخاب هذا المرشح دون غيره.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه على مسرح الاحداث الانتخابية هو، هل أن الناخب العراقي وصل الى مستوى تحمل المسؤولية الوطنية أم أنه لازال في بداية الطريق نحو المسؤولية.

أنا أعتقد شخصيا أن الناخب العراقي ولد من جديد مع العملية الديمقراطية التي حدثت بعد تشكيل الحكومة العراقية المنتخبة وتحمل منذ لحضاته الأولى أسئلة واستفسارات كبيرة. هذه الأسئلة مرتبطة بمشاكل هذه الولادة الديمقراطية القيصيرية التي يكتنفها الكثير من الأسئلة المربكة والمحيرة للقاصي والداني فعلى سبيل المثال لا الحصر.

العلاقة بين الديمقراطية السلمية والقتل والتفجير والقمع العسكري.

بين الأحتلال العسكري والسيادة الوطنية الناقصة.

بين العملية السلمية والاحتراب الطائفي والحكومي.

بين حقوق المواطنة والأضطهاد المدني.

بين دور السلمي للعملية السياسية والميليشات الطائفية التي تنتهك حقوق المواطنة.

هذه الاسئلة وغيرها سببت وستسبب للناخب الوليد قلق وعدم استقراء واضح للعملية الديمراطية برمتها خصوصا وان هناك منظرين من كلا الطرفين يبررون أسباب نجاح أو اخفاق العملية السياسية الجارية في البلد.

 مضافا الى هذا التشويش الفكري جائت ظروف ولادة الناخب العراقي غير طبيعية، لا سلمية، سريعة، قياسا بعمر التجارب الانتخابية العالمية وبنفس الوقت محملة بكثير من أمراض الماضي البغيض. فهو نشأ وتررع في رحم سياسي موبوء بأمراض أجتماعية وسياسية وأخلاقية مقيته حملها بشكل تلقائي أو أجباري من النظام الشمولي السابق ولم يكن له اي دور فعال فيها بل كان مخنوقا في رحم ذلك النظام الذي حوله الى كائن بشري فاقد للكثير من قيمته الأنسانية ومجرد من كل الحقوق ومثقل بالواجبات القسرية ومطلوب منه تقديم ولائاته وطاعته لحاكمه وجلاوزته الذين انتهكوا بشكل سافر كل القيم والاخلاق الاجتماعية المتعارف عليها واصبح المواطن لا حول له ولا قوة في الكثير من المظاهر التي سببت له نزف اجتماعي، وسياسي داخلي وتمزيق في ثوابته التربوية.

ناهيك عن الحروب والازمات الأقتصادية الخانقة والحصار الذي فرض على الشعب العراقي والتي كانت نتائجه ترمل العوائل وفقدان مصدر عيشها مما دفع بالكثير من الاطفال والشباب والشابات الى ترك مقاعدهم الدراسية ودخول سوق العمل مبكرا وكذلك الحال للنساء مما ولد جيل نسبة الامية عالية جدا ونسبة الفقر مرتفعة وهجرة واسعة للعقل العراقي واصحاب المستوى الاقتصادي المتيسر والعالي. هذا الاستقراء ليس من باب التجريح بالمواطن بل كان المواطن ضحية خائفة، صامته ضد ممارسات نظام مارس البطش والقتل الجماعي والمقابر الجماعية بشكل سادي شاذ عن كل الاعراف والتقاليد العربية والاسلامية.

عامل اخر سيوثر على الناخب العراقي هو الظروف التي عاشها الناخب العراقي بعد سقوط النظام السابق. فلّم تكن هذه الظروف مستقرة بل اكتنفها الكثير من المظاهر الجديدة المعقدة في ظهورها. وابرز هذه المظاهر

· الديمقراطية العسكرية التي رسخت العملية الديمقراطية السلمية السياسية والتي راح ضحيتها عشرات الألاف من العراقيين الأبرياء وتدمير للبنية التحتية لأغلب المدن العراقية ولدت حالة فزع فكري في مفهوم الديمقراطية.

· الصراعات العرقية والأفكار الطائفية الموتورة التي أججت النعرات الطائفية والأنفصالية والقومية بين ابناء البلد الواحد وولدت المحاصصة الطائفية والقومية لخيرات ومناصب البلد التي ادت الى تصفيات طائفية مقيتة وساعدت على ترسيخ النفس الطائفي وجعلته ينتشر ويتمثل سياسيا بسرعة كبيرة بين مدن وشوارع العراق.

· عجز الحكومة الحالية والحكومة السابقة عن تحقيق المطاليب اليومية الضرورية للمواطن ولد حالة قلق وضعف مصداقية الناخب بمرشحه.

· الحالة الأمنية المتردية سببت له فقدان الثقة في الحكومتين اللتين توالتا على الحكم.

· الانتهاك الصارخ لحقوق المواطنة المدنية ولد حالة قلق داخل تفكير الناخب العراقي بحيث بات يترحم على الحالة الأمنية السابقة.

· التحزب المتعدد الأشكال والذي لا يستند الى برامج ثورية وانما مطالب أصلاحية والكتل الأنتخابية الكثيرة ولدت حالة أضطراب في تحديد مرشحه.

· الفساد والرشاوي والمحسوبية شبة العلنية وحالات النهب لممتلكات الوطن والدولة أضعف مصاقية الناخب بالكثير من الأحزاب الحاكمة.

· الأعلام العراقي والعربي المناهض للعملية لديمقراطية الجارية في العراق سبب بلبلة فكرية في رأي الناخب العراقي.

· حالة اليأس والاحباط التي أكتنفت سيرة المواطن لعقود من الزمن جعلته يعتكف عن المشاركة الفعلية في العملية الأنتخابية.

كل هذه العوامل وغيرها ولدت نماذج مختلفة من الناخب العراقي وهم:

الناخب الوطني المتحمس للعملية الديمقراطية، وهو الممثل بأعضاء وجمهور الاحزاب السياسية التي تقود العملية السياسية وكذلك جمهور الأحزاب التي لم تفز بالأنتخابات والناخب المهاجر. كما ينظم الى هذا الناخب جمهور من الحرس الثوري الأحتياطي القديم الذين تركوا المعترك السياسي نتيجة بطش النظام السابق. هؤلاء يشكلون نسبة لابأس بها في مجموع القوة التصويتية الأنتخابية لكنها اليوم مشتتة تحت ألوية كتل سياسية مختلفة.

الناخب الطائفي، هو الناخب الذي ينحاز الى القائمة التي تمثل طائفته الدينية، بغض النظر عن كون هذه الكتلة ستحقق طموحة أم لا. ويمثل هذا الناخب السواد الأعظم من القوة التصويتية الحالية وخصوصا بعد ان دخل المعركة الأنتخابية الجديدة ممثلي كتل المناطق الغربية والرافضين للعملية السياسي. إذ يتكون هذا الناخب من نموذجين، الأول هو الناخب الطائفي الواعي الذي يتنخب كتلته الطائفية بوعي وقناعة كاملة وهم يشكلون نسبة مؤثرة من القوة التصويتية الأنتخابية لكنها ليست كبيرة. أما النموذج الثاني، فهو الناخب الطائفي الغير متصفح بدقة برامج أحزاب وكتل طائفته ويشكل هذا النموذج السواد الأعظم من الناخبين وهم الذين يصوتون بالمطلق للكتل التي تمثل عقيدته. لكن هذا النموذع سيواجه اشكالية صعبة في أختيار قائمته في هذه الأنتخابات تحديدا خصوصا بعد ان ألغت المرجعية الشيعية دعمها لأي قائمة كانت وبعد أن تعددت القوائم الطائفية الشيعية والسنية وبقية الأديان الأخرى باستثناء طائفة أو طائفتين فسينظم ناخبيهم للخيار الوطني.

 الناخب القومي وهو الناخب الذي لايزال محتفض بولائه الكبير لقائمتة القومية. وهذا الناخب هو الاكثر أستقرارا بين الناخبين، إذ لم يحدث فيه تفرعات أو انسحابات ألا القليل ولم يجرِ تشويش على برنامج قائمته وشعر للمرة الأولى بالتصويت لأنتمائه القومي هذا الناخب يحمل نفس النموذجين اللذين صنفا في الناخب الطائفي لكنه لن يجد صعوبة في أدلاء صوته الى قائمتة الوحيدة.

 الناخب الغير متحمس للعملية وهو يشترك في الأنتخابات تماشيا مع الرياح التي هبت على البلد وممكن أن يبيع صوته لمن يدفع ثمن أكثر وهذا الناخب سيشكل نسبة لاباس بها من القوة التصويتية.

 الناخب الرافض للعملية السياسية وهو الذي سيدخل هذه الأنتخابات على مضض رغم معارصته لكل ما يجري في العراق من أجراءات ديمقراطية لكنه سيدخل الأنتخابات ليمنح صوته لاحزاب معترضة على العملية الديمقراطية برمتها.

 الناخب الحاقد على مستقبل الديمقراطية في العراق وهو الناخب الذي يحن للزمن الصنمي وهو الناخب الاكثر شراسة من غيره كونه فقد اميتازاته القديمة لكنه دخل تحت لواء أحد الكتل الأنتخابية بالأكراه السري. هذا الناخب يشكل النموذج الأكثر خطورة على العملية السياسية فهو الناخب الداعم سرا لتأجيج الأنفلات الأمني والصراع الطائفي والنزعات المسلحة كما يثير البلبلة والتشويش الأنتخابي على عقل المواطن البسيط تحت شعارات وحجج تمثل هموم اكثر العراقيين.

 هذه النماذج من الناخبين ستتغير قرائتهم الأنتخابية في الدورات الأنتخابية القادمة وسيتغير نسبهم ايضا. فكلما ترسخت العملية الديمقراطية السلمية كلما زاد الوعي الأنتخابي وتطورت ثقافة المواطنة وترسخت تقاليد العرس الأنتخابي. إذ أن التعود على الذهاب الى صناديق الاقتراع هي تقاليد جديدة على سلوكية المواطن العراقي . لكنه اثبت أنه الأكثر متعطشا من بقية شعوب العالم لهذه التقاليد الديمقراطية، إذ سجل اعلى حضور أنتخابي في المنطقة العربية والعالم الثالث في ظل الوضع الأمني المنفلت وقدم نفسه قربانا لدستور البلد والعرس الانتخابي.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com