يروى أنه لمّا بلغ أحد خلفاء الأعراب نبأ وفاة أبيه في أحدى الحقب "الناصعة" في تاريخهم المجيد ناصع البياض، وكان عاكفاً يقرأ ما "تيسر" له من آيات من القرآن فأغلق الكتاب الكريم على عجل، بعد أن آلت إليه الخلافة، مخاطبًا أياه: "لقد انتهى عهدي بك الآن".
وفي الحقيقة، لم يكف بعض من هؤلاء عن العبث ببراءة هذه الشعوب المنكوبة بهم، واستغلال عفويتها وطيبة قلبها، لا في أوج تمددهم، أو في أردأ حالات انحسارهم كما هو حال صاحبنا الآن. فقد حرص السيد الرئيس القائد الملهم المهيب الركن صدام حسين على الظهور أمام كاميرات التلفزيون وبيده كتاب الله الكريم، وذلك في محاكمة العصر التي تجري هذه الأيام، وتتلقفها "فضائحيات" العربان والفرنجة والعجمان، على حد سواء، بكل إثارة، وتنقلها لعموم الناس في أربعة أطراف الأرض. وزيادة في المؤثرات السينمائية التي أتقنها منذ إطلالاته النادرة على الرعية في غابر الزمان، فقد امتعض، وارتعد، واستنفر، وزمجرشيادته امام القاضي العراقي البارع رزكار محمد أمين في الجلسة السابقة بسبب حرمانه من تأبط القرآن الكريم، والدخول به إلى قاعة المحكمة في حركة مسرحية متقنة، ولكنها مفضوحة، لتظهره بذلك الجانب الكبير من الإيمان، والورع، والتقوى، مزودا بلحية مشذبة، كان حريصا على ألا يرسلها أبدا في أوج عزه، وسطوته، وتسلطه على رقاب الشعب العراقي العظيم، وياليته تحلى بنفس هذا الحرص الزائف أيام الأبهة، والسطوة،والجبروت والصولجان.
ولا بد من التأكيد دائما على حرية الإنسان في العبادة، والمعتقد، واعتناق الأديان، وممارسة أية طقوس خاصة به، وهذا مبدأ مقدس، لا بل إنه لشيء رائع وجميل أن يتمتع الإنسان بكل مكارم الأخلاق المتعارف عليها التي تحض عليها، وتقدرها جميع الأديان بما فيها الإسلام. ولا ننكر عليه أو على أي شخص آخر أن يتدين وحتى أن يتصوف، ويصبح من الثقاة الأخيار المبشرين بفراديس السماء. ومع العلم التام، بنفس الوقت، بأهمية ومعنى، وجزاء التوبة النصوح في الإسلام، وهذا حق لايختلف عليه إثنان. ولكن ما ليس رائعا، ولا جميلا، بل ربما شنيعا تماما، أن تتم الشطارة، والتجارة بكل شيء، بما فيه دين الله. وأن يستمر العمل بهذه الحركات الكاسدة التي لايمكن أن تقنع، وتنطلي على أي كان. وتبقى مسألة الإيمان الصافي، والصحيح، هي عبارة عن علاقة خاصة بين الإنسان وربه ولا يعلمها إلا الله، وإن كان البعض يحاول أن يجعل، وبشكل مطلق، من اعتبار بعض المظاهر كأساس ومعيار في الإيمان. كما أنه لا يمكن أبدا لهكذا سلوك، منتشر بكثرة بين الناس أن ينفي ، أو يؤكد إيمان الإنسان في هذه الشرق المشبع بالسحر، والعقائد، والعبادات، لأن الله وحده هو العليم بما في صدور الناس، وإن يكن الزهد في الحياة شيئا أصيلا،ملازما ومصاحبا للإيمان.
ولكن ،وبذات الوقت أيضا، فإنه لمن المعروف تماما، أن النجاسة، والوساخة، يطهرها الوضوء، والتيمم أحيانا إذا تعذر، وعز وجود الماء، ولكن هل من سبيل ديني أو دنيوي ليطهر الأيادي الملطخة بدماء الآلاف المؤلفة من الأبرياء من الأطفال، والشيوخ, والنساء؟ وما هي تلك الكفارة التي يمكن أن تغسل كل ذاك التاريخ الممهور بالقتل، والسجن، والتعذيب، والنفي، والغطرسة، وتجاهل تعاليم السماوات في الرحمة، والعدل، والرفق بعباد الله؟ وفي أي كتاب ومعتقد يمكن أن يصدفها الإنسان؟ أوليس في كتابه العزيزآيات بينات محكمات تحذر بأنه يجب "ألا يمسه إلا المطهرون" من البشر والناس، فما بالك بالدماء التي لا يمكن أن تصبح ماء، ولا يستطيع كل ماء الفرات العذب الرقراق أن يطهرها من وينقيها من الآثام؟
كم يتألم المرء وهو يرى عتاة الجلادين، وقساة الجنرالات، وكبار الاستبداديين وهم يتاجرون بالأديان ويجيّرون الرسائل السماوية، ويتلاعبون بعواطف ومشاعر البسطاء خدمة لأغراضهم الدنيوية الزائلة، ويتحالفون مع بعض المنافقين في تبرير سياساتهم، وتزيينها، لا بل إضفاء نوع من القدسية، وهالة من السحر والباطنية على ممارساتهم اليومية.
لم نشق بالطبع، على قلب الرجل الهمام، وحاشا، وأستغفر الله أن ندعي، أو أن يكون بمقدورنا ذاك لنتاكد من عمق ايمانه وتقواه، وليست هذه مهمتنا هذه على الإطلاق، ومعاذ الله، وبآن، ان نكّفر أحدا، أو نخرجه من أي دين في يوم ما. ولكن نتمنى فعلا لو أن هذا الإيمان قد ظهر في تلك الأيام الأسطورية الإمبراطورية من الجبروت، والعنجهية، وتأليه وتكريس ونشرعبادة الذات، والأصنام..
في السابق، وفي زمن القوة والجلال والفلتان الأرعن من كل عقال، كانت أقحومة المسدس هي ما كان يراد لها أن تظهر، وتحشر بمناسبة أو بدون مناسبة في الاجتماعات، واللقاءات، وكافة المناسبات، وارتبط المسدس رمز القمع، والاستعداد للحماقات دائما بأذهان الموطنين في كل مكان. واليوم، في زمن الضعف والوهن والانحسار، وبعد أن لجم ذلك الجامح المتغول في صحراء السياسة، وبيداء الاستبداد، أصبح من الضروي التسلح بما يعكس هذه الحالة التي أعادت الرجل لرشده بعد عقود من التوهان، ولم يجد بدا من العودة للقرآن بعد أن عز الوصول، واستحال للمسدس والرصاص. إنها حال للهزيمة الكبرى والانهيار، ومهما حاولت أن تتوشح بالإيمان، وتُخفى بذاك اللمعان، وعودة محزونة وأخيرة إلى الله، بعد أن تعذر التواصل واللقاء مع أي إنسان
وعلى عكس ذلك الرجل خليفة الله في الأرض اليباب، فربما يكون، فقط، الآن، وبعد زوال العز والجاه والسلطان، قد بدأ عهد التقي المؤمن صدام بالقرآن الكريم، بعد أن علم، وأدرك تماما، أن الله حق، وأن في الحياة عدل، وحساب، وقصاص. ولكن ربما، أيضا، بعد أن يكون قد فات عليه الآوان.