شاهد الملك في مسلسل * صدام في قفص الأتهام* ـ الحلقة الثالثة

الدكتور لميس كاظم

lamiskadhum@hotmail.com

قبل أن أتناول الحلقة الثالثة، لأبد من التنوية، بان تكثيف عرض هذا المسلسل في هذه الفترة بالذات هو لشد المشاهد الى أحداث هذا المسلسل. لقد أعتاد المشاهد العراقي أن يتعايش مع حدثين كبيرين في ان واحد.

 في هذه الحلقة دخل الاقزام السبعة الى القفص  يرددون أغنية واحده * سبعة أيام من عمري بقالي * . ومن ثم دخل عريسهم واضعا منديله الأبيض على صدر سترته السوداء وكأنه ذهب الى ليلة دخلته الأخيرة. سلم عليهم وتصور انهم سيعيدون له أعراس الدم السابقة، لكنه وحال جلوسه في القفص فز وصحى من حلمه المؤرق ليتأكد بأنه سيعيش مع أقزامه السبعة في محكمة القرن الجديد. تيقنوا جميعا أن أعراسه وايالي زفافهم المشينه التي كان يطفأون به شبقهم وعطشهم السادي قد انتهت، وحان وقت حسابهم. جلس هؤلاء الاقزام السبعة المشيعون لأول نعش من نعوش الصنم في قفص الاتهام، يدافعون بكل عار عن جبنهم، يلتمسون العفوا والصفح من القضاء ويطالبون بالخدمات الانسانية والصحية وتناسوا انهم  قبروا شعبا تحت التراب لازالت أصواتهم تدوي في ضمير أهلهم.

شيدوا مدن من الموت تحت التراب العراقي، الذي  سيحفظ عار جرائمتهم في حضارات  العراق المستقبلية.

بنوا جبالا من الجماجم تحت التراب العراقي ستلاقيهم يوم حتفهم.

زفوا أعراس من دماء العراقيين الزكية رفضت ان تسري في ضميرهم الميت.

جلسوا في القفص منهارون، متباكون، مرتدون عُقلهم العربية المختلفة الالوان والأقطار. كان كل عقالا يشيع صنم من الاصنام العربية. أجبروا على لبسوا العقالات العربية التي رفضت نداءات نجدتهم من هذا القصاص العلني المفضوح .

 في بداية الحلقة ظهر أرباك مفتعل ادى الى أنسحاب هيئة الدفاع العربية والاجنبية من قاعة المحكمة بسبب تذكير القاضي بنظام ادارة المحكمة الذي يفضي بالتحدث باللغة العربية فقط، لكن القاضي عاد وكسر القاعدة وأستجاب لمطاليب الدفاع الأجنبي وسمح له أن يلقي خطابه لمدة خمس دقائق كما سمح للدفاع العربي بخطاب لمدة 16 دقيقة.

 ابتدء الحفل بكلمة الدفاع الأجنبي، الراعي، التربوي الذي يدعو الى العدل والوحدة وحماية أمن وسلامة المحامين ولم يذكر بجملة واحدة عن المتهمين. كانت مهمته في هذه الحلقة هو تسليط الضوء على الدوافع النبيلة والقيم الانسانية التي جاء من أجلها. لكن وزير العدل الأمريكي السابق غيب عمدا عن ذاكرته، تلك الجرائم اللاأنسانية التي ارتكبها الصنم في فترة حكمه.

بينما راح الدفاع العربي، الذي نقل بطائرة امريكية خاصة من القاعدة السيسيلية الى بغداد، يسارع لأسقاط شرعية المحكمة المنتخبة ويفشل اختصاصها ويشكك في استقلاليتها. وقد  تحول المدافع العربي الى مهاجم محافظ في فترة زمنية قصيرة، إذ صال وجال في ملعب المحكمة وفقز بين الأزمنة التي توالت بعد سقوط صنم الامة العربية الضخم، ليثبت حقيقة كلنا نقرفها وهي ان الأحتلال أسقط الصنم، وكأنه يخترع الماء الحار. كان مؤديا ناجحا لدوره المحسوب بالكلمات والدقائق. حاول الدفاع العربي أن يقلّب الحقائق كما أشتهى. كان واضحا علية الأنفعال وأراد أن يفرغ ما في صدره من حقد ضد المحتل، الذي يجثم على صدره عقود من الزمن، لكنه لم يتجرء من هناك أن يصرح، يحتج أو يطالبه بجدولة أنسحابهم من هناك، بل  جاء الى هنا في أرض السواد، والحرية ليطالب بحقوقه العربية المغتصبه.

من هنا ستكون الفرصة مواتية له لليهتف يسقط الأحتلال.

من هنا سيعلوا صوته العربي، القومي الداعم لجرائم الصنم.

من هنا سيدافع عن العُقل العربية الجالسة امامه في قفص الأتهام.

من هنا سيرمم المعابد الوثنية العربية الايلة للسقوط.

من هنا سيدافع عن أبطال خانقي أرواح القوي الوطنية العراقية، ومجرمي المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة والانتفاضة الشعبانية.

من هنا سيلغي حق المظلومين من الارامل واليتامى والأمهات، الزوجات، الشيوخ وكل العوائل العراقية التي فجعت بجرائم الصنم. 

من هنا سيدافع  ليلملم بقايا حطام زمن الأنظمة العربية الفاسدة.

من هنا من ارض السواد سيدافع عن بقائه هناك.

 كان يلوج في جمله ليدحر العلوج كما فر منها محمد الصحاف وليوصل فكرة أنه جاء ليعرف من هو الظالم ومن هو المظلوم؟ وعلى ما يبدو أن الدفاع العربي لم يكتف بملونين شهيد ومفقود من العراقيين خلال فترة حكم الصنم وبل أنه يطمح للمزيد.

 أن المثير في هذه الحلقة هو أن المخرج حاول أن يسلط الضوء على أنسانية المتهمين، المجرمين، الذين حاولوا أن يصوروا، أن فترة حكم الصنم، كانت تحتكم الى قانون واصول قضائية ومذكرات اعتقال بالوقت الذي كان هناك حقا دولة، لكنها دولة قرقوشية، فردية لا يحكمها أي قانون ويتم الأعتقال وأنتهاك حرمة البيوت واطلاق سراح الموقوفين وتنفيد القتل والأبادة الجماعية دون الرجوع الى أي قانون بل بجرة قلم الصنم وأوثانه. فالصنم اعترف بالصوت والصورة بقتل هؤلاء الأربعة من أهالي الدجيل في يوم 8|7| 1982 عندما قال * خذوهم لهذوله الأربعة وطرهم كل واحد على حده* هذه هي دولة القانون يا هيئة الدفاع الموقرين، بجملة شفهية واحده تقتل أربعة مواطنين ابرياء.  

 كانت هيئة الدفاع تسأل المشتكين، إن كان بحوزتهم قرار أو أمر توقيف أو أعتقال أو أعدام أو اثبات لمحكوميتهم، وكأنهم كانوا يعيشون في دولة أوربية تحترم حقوق الانسان. بالوقت الذي كلنا نعرف تماما، وأولهم هيئة الدفاع، أن الصنم ومرتزقته استباحوا القانون، البلاد، الشارع، البيوت والأعراض واصدروا  قرار أطلاق النار في الشوارع ضد كل من يشتبه به.

 حاول الدفاع فيما بعد ان يثبت أن الصنم لم يرتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية بنفسه، ويبدوا أنه يعرف جيدا من أين تأكل الكتف. فالطاغية لا يمكن ان يكون بهذا الغباء ويوثق جرائمه ضد الانسانية بنفسه. لكن الوقائع والقرائن تثبت أن الجرائم قد حصلت وتراب العراق قد وثقها.  فنحن لازلنا في مسيرة بحث عن مفقودينا الذين غيبوا بدون اية قصاصة ورق. أنا وعائلتي أول المتضررين من الفترة الصنمية، أنا فقدت أخي وأثنين من أخوة زوجتي وبنت خالتها ومجموعة طيبة من اصدقائي بدون أية أدلة أو حتى مكان اعتقالهم او اعدامهم. ولغاية كتابة هذه السطور لم نعثر على جثثهم، بل حصلنا على أرواق قديمة من قرار صادر من مجلس قيادة العوجة بأعدام جماعي صدر بحقهم  في 1984. لقد اختفت المئات بل عشرات الأف من الشخصيات الوطنية العراقية ولم يعرف مصيرها لحد اليوم. كانت المعابد الوثنية تحاول ان تخطف، المُعارض من الشارع، الجامعة، الدائرة أو البيت في صمت تام وتعتيم اعلامي منظم كي لا تحدث ضجة في الشارع وتسبب احتجاجات وطنية وعالمية مثلما حدث في عام 1963.

 كان الصنم وجلاوزته يعتقدون بعدم وجود ادلة موثقة وهم ابرياء، كبراءة الذئب من دم يعقوب، وأقوياء في دفاعهم، منطلقون من حقيقة مهمة، بأن معابدهم وأرشيفهم واقبيتهم ومعدات التعذيب قد اتلفت وحرقت وغيبت وتبعثرت كما هدم كل مؤسسات الوطن، لكنهم اغفلوا ما هو أهم، بأن ذاكرة العراقيين الذين ظلموا وتفجعوا بجرائم الصنم لا يمكن ان تلتف او تدمر.

أضهرت هذه الحلقة شجاعة مقدامة للشاهد الأول، احمد حسين محمد الدجيلي، الذي تحدى التهديد والموت وحاكم الطاغية وجلاوزته علنا بمنطق المظلوم الذي سجن وعذب وفقد عائلته واهله، وهو منطق يلتف حوله ملايين العوائل العراقية، فأنا أحيي شجاعته وصبرة للوقوف امام جلاد، سفاك، وقح دون ان يفقد صوابه ويضربه بنعل حذاءه على رـسه كما ضرب ابو تحسين بنعاله راس الصنم.

هذا المظلوم الذي حاجج الصنم وعباده النتنين بكل موضوعية، رغم ان المستهر برزان أساء اليه وسخر منه وأهان كرامته أكثر من مرة.  لكن المشتكي تحلى بالصبر وأراد ان يقول لهم: أننا لم نعد نخاف منكم أيها الاصنام الساقطة وسنواجهكم بالحقيقة والأدلة مهما كانت ترسانة دفاعم محصنة بمئات المحامين. فالحقيقة ستكسر كل تجلياتكم الكاذبة.

  كانت الأدوار في هذه الحلقة تميل لكفة شاهد الملك الأول، الذي صدم الجميع بالادلة الدامغة والذاكرة القادحة للوقائع. فالشاهد الجريء الذي لم يتعد على تقنية المصطلحات القانوينة وحيل المحامين الماكرة، نحج في مواجهتهم بالأدلة العملية الدامغة وبمكان وقوع الجريمة وأشكال التعذيب البربرية. كان لوحده وبثقافته العراقية المتواضعة يصد هجوم قوي، شرس من فريق القضاة  والمحامين والوزراء المتخصصين لتهشيم وتفكيك شهادته ولم يكتفوا بذلك بل انضم اليهم الأخوة الأشقياء * توم وجيري* الصنم واخيه، وهم أيضا قانونيون، محترفون وبائعي جمل قومية طنانة.

فرغم كل قوة هيئة الدفاع المحترفة والغير متكافئة مع المشتكي إلا أن أدلته فضحت زيف ادعاءاتهم وضيقت عليهم الفرص للدفاع. انه جابه اقوى العروش الصنمية التي شيدت في القرن الماضي. لقد حاكم المسيرة الصنمية الكاذبة التي تحاول أن توهم العالم بأنسانيتها لكنه فضح كل بربريتهم وانتهاكاتهم اللأ أنسانية مما أخرجهم عن طورهم وأدبهم السفيه. فهجموا عليه كالنعاج المستضعفة، يستنجدون تارة بالقاضي وعدالته وأخرى بمرؤة الشاهد العراقي. لكن بعد ان نفذ صبرهم وخابت مرفعاتهم، صبوا غضبهم السقيم عليه وتطاولوا بأدبهم السوقي خصوصا هذا النزق، الأرعن، برزان الذي عبر عن وحل ثقافته الواطئة، عندما  تمتم مع نفسه وقال بصوت مسموع  * هذولة جايبيهم من الكلجية.

عذرا يا برزان أبن أبيه، أخو الصنم الغير شقيق. هذا المواطن العراقي جاء من رحم العراق الطاهر الذي حاول ان يحمي نفسه من دعارتكم اللاأخلاقية. أنه مواطن شريف يتملك ام واب شرعيينن شريفين، معرف الحسب والنسب. جاء هذا المواطن الشريف ليثبت حقه في دولة القانون والعدالة الجديدة التي أفسدها حكمكم القرقوشي البغيض.  

 خرجت هيئة الدفاع بأستناج واهي بأن المشتكي، كان ملقنا، متهيئا لأداء الدور وهذه الشهادة ملفقة، مستندين لحجج أقبح من نتائجهم إلا وهي كيف له ان يستذكر كل هذه الاسماء والوقائع. أي هراء هذا؟؟  طبعا سيراجع كل الوقائع والاحداث وتفاصيلها الدقيقة قبل أن يدلوا بشهادته التأريحية، الفريدة من نوعها، ليوصل الحدث بمصداقية كاملة خصوصا وهو قد عاش كل هذا التعذيب الوحشي الذي حُفر في ذاكرته عقدين من الزمن. كان يُعذب كل يوم عدة مرات، ويفز من حلمه خوفا من الموت المنتظر، هذا الشاهد لا يمكن ان ينسى جلاده مهما مرت عربة الزمن فوق ذاكرته. فأنا كنت طفلا ، والأن وبعد أكثر من أربعة عقود من الزمن، لازلت متذكرا ملابس أبي ومفزوعا من ضرب رجال الحرس القومي لأبي لحظة اعتقاله في بيتنا العتيق عام 1963. 

 في هذه الحلقة برز دور المتهمين الذين كانوا كالفئران الخائفة في الحلقتين السابقتين وبالأخص رجل المهاترات الغير مؤدب، برزان، صاحب الليالي الانس مع الكاولية، الذي خرج عن صمته وحاول أن يضخ جرعات من الشجاعة لبقية المجرمين ويرفع من معنوياتهم.

 كان القاضي شفافا معهم، لحد اللعنة، بحيث سمح لهم بالخروج عن الموضوع والتمجد بتأريخهم السادي وخصوصا الصنم الذي حاول أن يدافع عن مسيرة حكمه الفاسدة، بالوقت الذي كان القاضي يطلب من المشتكي بعدم الخروج عن الموضوع. كان المتهمون اكثر حرية من المشتكين وحالوا ان يستعيدوا عافيتهم في هذه الحلقة. أما المدعي العام فلم نلحظ دفاعه القوي عن الحق العام.

كانت هذه الحلقة اكثر الحلقات أثارة، فهذه ليست اول مرة في تأريخ الصنم ان يصدر بحقه حكم الأعدام. فأجرام متأصل بشخصيته وهو متربي على حياة البلطجة السياسية والاخلاقية، لكن هذه اول مرة يقف الصنم في القفص خانعا،مستضعفا، أمام مواطن عادي ويحاكمه ويدنيه علنا بالاجرام والقتل. هذا الشاهد فتح الباب أمام كل العراقيين ليدلوا بشهادتهم أمام المحكمة ضد مجرم القرن الواحد والعشرين.

رغم عدم التوازن في أداء الادوار إلا أن شاهد كان متألقا، واثقا الخطى يتكلم ملكا في ادلته. هذه الحلقة شجعت كل من له حق من الصنم ان يتقدم للشهادة ضده. لقد كسر هذا الشاهد حاجز الخوف الذي ظل جاثم على صدور العراقيين طلية أربعة قرون. وسنرى شهودا ومشتكين اكثر في الجرائم القادمة في محاكمة الصنم.

 ترقبوا التعليق في الحلقة القادمة.     

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com