|
في الذكرى السابعة لرحيل المؤرخ زبير بلال إسماعيل: رحلة العطاء والتعب
محمد مصطفى الصفار تحل علينا في الخامس عشر من شهر كانون الثاني 2005 الذكرى السابعة لرحيل واحد من أهم وابرز المؤرخين الكرد في النصف الثاني من القرن العشرين وهو المؤرخ الغائب الحاضر زبير بلال إسماعيل (1938-1998) الذي رحل بجسده ولكنه يظل حاضرا بيننا على الدوام، لما قدمه من انجازات علمية بارزة وخدمات جليلة لشعبه وأمته.حيث افني زهرة شبابه وكرس حياته من اجل تدوين تأريخ أمته ووطنه على أسس علمية وفى حياد علمي صارم قل نظيره، أو بتعبير أدق لا نظير له بين المعاصرين له من المؤرخين الكرد، وكان أول مؤرخ كردى متخصص في التأريخ القديم، حيث تخرج في كلية الآداب / فرع الآثار والحضارة بدرجة امتياز عام 1960. وخلال السنوات العشر الأولى - بعد تخرجه - كرس كل جهوده لتدوين تأريخ مدينته العريقة(اربيل)،هذه المدينة الشامخة التي لعبت دورا بارزا في الأحداث الجسام التي شهدتها المنطقة وغيرت مجرى التأريخ. وقد فاجأ مؤرخنا الجليل الأوساط الثقافية العراقية ومنها الكردستانية على وجه الخصوص في عام 1971 بصدور مؤلفه الضخم ( اربيل في أدوارها الـأريخية )الذي قالت عنه جريدة التاخى في حينه انه موسوعة تاريخية لا يستغنى عنها اى مثقف. وفى السنوات اللاحقة،اصدر العديد من الكتب القيمة و مئات الدراسات العلمية عن تأريخ الكرد وكردستان والتي نشرت في أمهات المجلات العراقية والكردية.ومن أهم كتبه الصادرة في السبعينات من القرن المنصرم كتابه الشهير ( تأريخ اللغة الكردية ) حيث اثبت بالأدلة العلمية الدامغة: أن اللغة الكردية لغة عريقة ومستقلة لها أصولها الضاربة في أعماق التاريخ ولها قواعدها الخاصة بها. وقد أولى الفقيد اهتماما بالغا بأعلام الكرد من علماء ومؤرخين ومفكرين. ففي عام 1979 اصدر كتابا عن سيرة حياة وآثار المؤرخ الكردي الأصل وابن اربيل ( ابن خلكان ) الذي ولد وترعرع في إحدى القرى القريبة من مدينة اربيل قبل أن يشد الرحال إلى ديار العرب والإسلام في طلب العلم ، وفى عام 1987 اصدر كتابا عن سيرة ومناقب احد ابرز شيوخ الطريقة الصوفية في كردستان وهو ( الشيخ جولي ) والذي لا يزال المسجد الجامع الذي كان يتولى فيه الإمامة والتدريس ،قائما في قلب مدينة اربيل ، كما أن الميدان الفسيح القريب من المسجد المذكور يحمل اسم ( الشيخ جولي ) أيضا. كان الفقيد يقول :إن اربيل مدينة العلم والمعرفة فقد قدم للعالم الأسلامى علماءا أفذاذ، ويتضمن كتابه المعنون ( علماء ومدارس في اربيل ) تراجم لعدد كبير من علماء اربيل واهم وأشهر المدارس ودور العلم فيها. وبالرغم من إن تخصص مؤرخنا الكبير كان في التأريخ القديم ، إلا انه كرس جزءا من جهوده العلمية، لتأريخ الأمارات الكردية، وفى مقدمتها إمارة سوران وإمارة بابان والأمارة الهذبانية التي كانت اربيل عاصمتها. وكان الفقيد يتتبع ويستقصى كل ما له علاقة بآثار المنطقة ويحلل ويستقرى، نتائج التنقيبات الأثرية في كردستان لإلقاء الأضواء عليها وبيان أهميتها العلمية ومن اجل استجلاء تأريخ كردستان القديم، معززا بالشواهد الأثرية، مثل المدونات والآثار المادية. وعل ضؤ هذه النتائج اصدر قبيل وفاته بأشهر قليلة كتابه القيم ( تأريخ اربيل ) وهو كتاب جديد في مضمونه، يختلف إلى حد كبير عن كناب ( اربيل في أدوارها التاريخية ) . وقد عقدت وزارة الثقافة في إقليم كردستان ندوة مكرسة لتكريم ذكرى الفقيد ومناقشة الأهمية الكبيرة لهذا الكتاب وذلك في شباط عام 1998 اى بعد مضى حوالي شهرين على وفاته ،وقد اقترح وزير الثقافة في ذلك الحين الأستاذ فلك الدين الكاكائى، ترجمة الكتاب إلى اللغة ألإنجليزية، واقترح خطباء آخرون تدريسه في مدارس الإقليم . ولم تغب القضية الكردية، وبخاصة الحركة التحررية الكردية عن مجالات اهتماماته العلمية والوطنية، حيث كرس لهما أكثر من كتاب وعشرات الدراسات، لعل أبرزها كتابه القيم عن " ثورات بارزان "الذي صدر بعد فترة وجيزة من وفاته . وبالرغم من اشتداد وطأة المرض عليه فقد اشرف--وهو طريح الفراش --على تنقيح الكتاب وتصحيح اخطاؤه المطبعية لعدة مرات، ولم يكن ذلك عملا هينا على الأطلاق وبخاصة على مريض طريح الفراش. وثمة مجال آخر عنى به الفقيد وهو البحث عن المصادر القديمة الأصيلة عن تأريخ الكرد وكردستان، حيث أن مثل هذه المصادر قليلة، بل شحيحة، حيث يندر وجود كتاب مستقل كرس لهذا الموضوع في الماضي، والمعلومات عن الكرد وكردستان متفرقة ومبتورة ومبثوثة في ثنايا كتب مكرسة لموضوعات أخرى، ويرد فيها بعض المعلومات الشحيحة ، التي قلما انتبه لها الباحثون الآخرون. وبعد البحث والتنقيب المضني والطويل توصل مؤرخنا الجليل إلى كشف النقاب عن مصادر أصيلة ورد فيها معلومات عن الكرد وبلادهم أو عن " إقليم الجبال " على حد تعبير المؤرخين العرب. وقد نشر الفقيد العديد من الدراسات حول هذا الموضوع وفى مقدمتها كتابه الشهير " ألأكراد في كتب البلدانيين المسلمين " .وكان ذلك سبقا مهما ، سار على نهجه الباحثون الآخرون لاحقا. عمل الفقيد في السنوات ألأخيرة من حياته ( خبيرا ) في المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة في إقليم كردستان، وكان له دور بارز وفعال في تقديم المشورة حول التنقيبات الأثرية الجارية في كردستان العراق، ونشر العديد من الدراسات الـأريخية والأثارية الرصينة مجلة " شاندر " التي كانت تصدرها المديرية المذكورة، و هىمتخصصة في ألآثار والتأريخ القديم .وقد احتجبت عن الصدور دون مبرر وجيه.وخلال عمله في تلك المديرية كتب المادة العلمية لدليل " قلعة اربيل " ودليل " مدينة اربيل " اللذين أصدرتهما المديرية عام 1998. وكان لمؤرخنا البارز حضور دائم وفعال في الساحة الثقافية الكردستانية والعراقية واسهم في الهيئات الأأستشارية للعديد من المجلات الكردستانية الرصينة، وكتب العشرات من الدراسات والمقالات حول التراث الثقافي الكردي والثقافة الكردية والعراقية فى كبريات المجلات العراقية والكردية مثل " مجلة المجمع العلمي العراقي " ومجلة " الثقافة " البغدادية و مجلة " كار وان " الكردية وغيرها . وقد ذاعت شهرة مؤرخنا الكبير في كردستان والعراق وفى الأوساط الأستشراقية وأصبح مرجعا للكثير من طلبة الدراسات العليا والباحثين الآخرين، الذين كانوا يراجعونه طلبا للمعلومات أو يستشيرونه حول مختلف قضايا التأريخ الكردي ، ولم يكن يبخل على احد من الدارسين بوقته الثمين وجهده المخلص، وهو مثال نادر لنكران الذات. وربما كان الفقيد احد المؤرخين القلائل الذين ترجمت أعمالهم إلى بعض اللغات الأخرى. وقد وردت سيرة حياته في العديد من الموسوعات التاريخية، كما تم تخصيص صفحة كاملة لسيرة حياته في موسوعة " أعلام العراق " وثمة مواقف وطنية مشهودة وقفها الفقيد بكل صلابة وتضحية وإقدام ومن هذه المواقف اشتراكه الفعال في منع المساس بقلعة اربيل التاريخية، حينما أراد أزلام الطاغية صدام هدم بيوت قلعة اربيل التاريخية ، حيث أرسل ، مع مثقفين آخرين برقية إلى السلطات يطالب فيها بوقف عملية الهدم والتخريب وكانت مثل هذه المطالبات عملا محفوفا بالمخاطر في عهد الطاغية. ومن المواقف المشهودة الأخرى للفقيد ، إن الرقابة الصدامية رفضت السماح بنشر كتابه المعنون " إمارة الكرد الهذبانية " عام 1980 ومن يرى الكتاب المخطوط المقدم للنشر ، بعد إعادته للمؤلف من قبل الرقابة يستغرب من الحقد الدفين لأزلام النظام البائد على كل ما له علاقة بالكرد وكردستان، فقد مزق الرقيب الهمجي صفحات الكتاب المخطوط بقلمه الأحمر وشطب على معظم صفحات الكتاب وبخاصة الفقرات التي وردت فيها كلمات ( كردستان و الأمارة الهذبانية ، والحرية وغيرها كثيرو أينما وردت في المخطوط )، كما كتب بالقلم الأحمر وبحروف كبيرة غطت صفحة كاملة ما يلي :(يمنع نشره كلا أو جزءا داخل العراق و خارجه) كان الفقيد مثقفا عصاميا ومؤرخا فذا نذر حياته لاستجلاء وتدوين تأريخ أمته ووطنه في رحلة دامت أكثر من ربع قرن من البحث والدراسة والعمل الدؤوب المتواصل دون كلل أو ملل ، أنها رحلة التعب الفكرىوالعطاء العلمي الثر من اجل الكرد وكردستان. فألف تحية تقدير واجلال وعرفان بالجميل إلى روحه الطاهرة في الذكرى السابعة لرحيله ، وقد رحل عنا الفقيد بجسده - وهو في أوج نضوجه العلمي - ولكنه مازال ماثلا أمامنا بعطائه الفكرىالغزير والقيم - وسيبقى خالدا في ذاكرة الشعب وفى ذاكرة الأجيال القادمة، لأنه عبد الطريق للجيل التالي من المؤرخين الكرد، الذين ساروا على نهجه وكان بذلك رائدا كبيرا شق الطريق وأنار الظلمات في درب البحث العلمي الشاق ، وفى هذا يكمن الأهمية العظيمة لأعماله الخالدة ..
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |