عندما تطفئ الشموع

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

لو تركوا منه وجهاً، ولو جامداً لتطبع عليه القبلات، ولو تركوا منه ولو كفاً واحدا ليلوح بها مودعاً الأطفال والأحباب والأصدقاء. ولو تركوا منه ولو عيننين جامدتين تحدقان في الفراغ لتودع وجوه الأحبة في اللقاء الأخير قبل عناق التراب. ولو تركوا منه ولو يدا واحدة ليشد عليها الحزانى المفجوعين برفاق العمر المزهوق على عتبات الأوطان الثكلى. ولو تركوا منه فقط ولو بقايا صدر ممزق لم يعد يخفق بالحياة لكي يغفو عليه المحبون إغفاءة الوداع. وآه لو تركوا منه ولو هيكلا لجسد ملأ الدنيا ذات يوم صخبا وحياة، ليحمل على الأكف في مسيرة الفراق. آهٍ ما أقساهم هؤلاء القتلة الأجلاف حين أرادوا أن يمحوا كل ما تبقى من أثر لجبران عن قيد الحياة، ويحيلوه دفعة واحدة إلى سراب، وشيء كالضباب؟ آه كم هي تلك النفوس جذلى برائحة الدم، وسكرى بآهات الناس، وكم تنتشي بحضرة الموت، وأنين الأرواح؟ أمة لا تصحو كل يوم إلا على أخبار الموت، ويبدو أنه لا يطيب لها نوم إلا بعد أن تحصي عدد الأموات من الأبناء، ولا يهنأ لها عيش إلا في مجالس العزاء.
لم تعد، أبدا، بلادا جميلة كما كانت في سالف الزمان، فمن لم يقعده الرعب، وتخمد آماله المافيات، نسفته السيارات المفخخات بالديناميت والأحقاد، ومن لم تغيّبه زنازين الأمن والمخابرات، سحقه الفقر الأسود، ووضعه جنبا إلى جنب مع الأشباح، وأشباه الكائنات. ومن لم تسحقه ماكينات الإعلام، وحفظ كل القصائد والأشعار التي تتغنى بالعساكر والجنرالات، أصيب بالصم، والبكم، والجذام. إنها فضاءات لا متناهية من إنتاج الخوف، وتكريس ثقافة الاستئصال، وبلاد الموت الشامل التي لا تشبع من أجساد أبنائها الصغار. فراغات لاتملؤها سوى الجثث، ومساحات من الصمت المطبق لا يكسره سوى أصوات الانفجارات. وحمى قتل طالعة من كل مكان، لابسة لكل الأثواب. ومخطئ من يظن، وتراوده الأحلام الضغاث، بأن الأمور ستعود يوما كسالف العهد والزمان.
لقد هوى اليوم نسر جديد حلق طويلا في سماء الكلمة، وفضاء الحرية، وعالم الصحافة والإعلام، وأطفئت شمعة أخرى أضاءت طويلا دهاليز التزلف والظلام. فهاهي يد الموت والإجرام تضرب مرة أخرى، وفي قلب العاصمة اللبنانية بيروت، لتطال واحدا من رموز ما بات يعرف بالمعارضة وثورة الرابع عشر من شباط، وواحدا من أشهر الكتاب والصحفيين في لبنان، ورئيس تحرير جريدة النهار التي فاقت شهرتها مساحة لبنان الصغيرة. إنها جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة الجرائم الأخيرة التي ارتكبت في لبنان ضد رموز بارزة مما بات يعرف بالمعارضة اللبنانية. وأخيرا صمت هذا القلم، وأجبر على السكوت بعد أن غرد طويلا خارج كل الأسراب. فهل هي رسالة، وأيا يكن القاتل، بأن لا مكان للكلمة الحرة، والموهبة والإبداع، وللرجال المميزين في أوطان باتت مهمتها التاريخية إنجاب المسوخ، والمشوهين، والمخلوقات المنغولية المجردة من الدماغ، وأشباه الكائنات الحية التي لا تتمتع بأي قدرمن الأحاسيس، والتمييز، والإنسانية، والأخلاق؟
ولم تعد كل أجهزة الإنذار، ولا وسائل التمويه والإخفاء، أو أي من السيارات المصفحات التي تنتجها كبرى شركات السيارات، ولا عقول مهندسيها، ومصمميها الأذكياء بقادرة على إنقاذ حتى المليارديرية، أوكبار الساسة، والكتاب، وعابري السبيل من المتعوسين الفقراء. وليس بمقدور أحد التهرب والمرواغة من تسونامي الموت الجامح، والقتلة. وحين يصدر قرار الموت وحكم الإعدام، ويستهدف أي كان، فما على عزرائيل إلا التنفيذ والإجهاز فورا على الأرواح. كما لم تعد دول عزيزة قادرة بحالها على حماية نفسها، ولا جيوش جرارة أن تحمي أحد جنرالاتها، ولم يعد أحد بقادر على حماية نفسه من الولوغ في دوامة الموت التي تكبر كل يوم وتطلب مزيدا من الأجساد، ولا يهم إن كانت الضحية معارضاً، أو موالياً، أو مسالما محايداً خرج ليجلب خبزا وحلوى لأحبابه الصغار، فالقتل أصبح صناعة خاصة بامتياز بهذه المنطقة التي لم تعد تعرف كيف تتعايش مع الحياة، وأصبح الموت لازمة يومية كالسكر والملح والماء، وبدونه لا طعم للحياة، والكل في سباق محموم لتسجيل الأرقام القياسية في حصد الأرواح، والتربع على الجثث وجماجم الأبرياء. فشهوة القتل، وحى الانتقام أقوى من كل التحصينات. وأصبح وبالا وشؤما أن يكون المرء مميزا في أي شيء، حتى في صنعة الحب التي هي كنه وجوهرالإنسان، ولو فاق حبه للأوطان ماهو مسموح به في النشرات الرسمية، وميزانيات الحكومات الخاسرة، فسينزل عليه الغضب الساطع، ويحكم فورا بجرم مخالفة الإرادة السامية، ويسجن مؤبدا بتهمة الإدمان.
وبعيدا عن كل هذا النعيق المصاحب، في هكذا مناسبات، والذي بدأ يصدّع الرؤوس في كل مرة، من نفس جوقة الغربان، فإنه لمن السابق لأوانه التشاطر، والتذاكي، واستباق التحقيقات، وربط جريمة اغتيال المرحوم الكاتب اللامع جبران تويني بأية جهة كانت. ومن السذاجة تماما، وبمكان، تحويل الأنظار باتجاه واحد في كل مرة تتناثر فيها الأشلاء، فهذه صنعة البلهاء. فهناك لاعب ماكر، يتقن فن إشعال الفتن، وتأجيج البراكين الخامدة في كل مكان،وداهية يتحرك، ويحرك آخرين من خلف الستار، ويتحكم بالمشهد العام، وهذا ما لا يقدر عليه كثير من اللاعبين الصغار، ولابد أن هناك دوما من يجيد استغلال الأخطاء، والصيد في المياه العكراء، وتسويق الأوهام، وإتقان فن الإيحاء.
يبدو أن "المتردية" قد طاحت فكثرت السواطير، والسكاكين، والجزارين المولعين برائحة الماء. إنه شيء أكبر بكثير من خيال دهاة المخططين،وفقهاء السياسة المتذاكين الشطار، والمحللين الاستراتيجيين الفصحاء، والعبرة كل العبرة فيما هو قادم وآت، وهاهي تباشيره الأولى تلوح من بين ركام السيارات، والجثث المتفحمات، وحجم الدمار.
لن نتكلم، ونسهب كثيرا في مزايا ومناقب الفقيد، فهذا متروك للتاريخ، والحقيقة، والزمان، ولا يمكننا سوى الترحم على هذا العلم الأدبي والإنسان البارز المغوار وعليه ألف رحمة من الله. وإنها لخسارة كبرى بكل المقاييس أن ترى شموعا تذوي في عز الظلام. وعندما تطفئ الشموع فقط، نتذكر أن الظلام موجود بكثرة في كل مكان، ونعرف، أيضا، عندها قيمة النور، ومعنى الضياء
 

 العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com