|
أتفق العراقيون ولم يتفق السياسيون!
حمزة الجواهري 2005-12-14 بعد الانتفاضة الثالثة للإصبع البنفسجي خلال هذا العام، أجد أمامنا ثمة أمر هام لابد من مناقشته، فقد تكلم الجميع عن قوائمهم وكياناتهم السياسية بشكل جيد، وأحيانا جيد جدا. خطابهم ينم عن فهم عميق لنبض الشارع العراقي وما يبحث عنه الناخب لكن لون لغتهم رمادية، حتى يتراءى للناظر أن ليس هناك خلاف حول المسائل الأساسية بين قائمة وأخرى، ربما حتى الأولويات أيضا يبدوا أنهم متفقون عليها، ولكن مع ذلك نرى أكثر من مائتي قائمة متنافسة في الانتخابات! فإذا كانوا جميعا يعرفون ما يريده العراقي، ويعرفون الأولويات، ومعظمهم يعرفون ويتفقون على سبل معالجتها، فلم كل هذا العدد الهائل من القوائم؟! وما هو سر الخلافات والصراعات التي نسمع عنها؟! في الواقع لم يعد خافيا على أحد من خلال هذه التجربة الانتخابية أن الأهداف الحقيقية من وراء البرامج المعلنة للكيانات السياسية والائتلافات تختلف عما هو معلن، لأن لو كان ما هو معلن يتفق مع الأهداف لما أصبح لدينا هذا العدد الهائل من القوائم المتنافسة، لكن من خلال لغة خطاب مدروسة بشكل جيد هدفها من حيث الأساس إخفاء النوايا الحقيقية، في معظم الأحيان، نرى الكذب ينضح بشكل سافر من بين سطور البرنامج الانتخابي أو الخطاب الإعلامي، لكن تبقى الحقيقة التي لا مناص من التأكيد عليها وهي أن الجميع يعرفون ماذا يريد الشعب. وهذا بحد ذاته يعني أن الأهداف الغير معلنة، أو الأهداف التي تخفيها الكيانات والائتلافات، غير مشروعة ولا تتفق مع ما يريده الشعب، لأنها لو كانت مشروعة وهي التي يبحث عنها العراقي لما أخفاها أصحاب تلك الكيانات. فأي منهم نأتمن على مستقبل العراق؟ والجميع، بلا استثناء يقولون شيء وسوف يفعلون أشياء أخرى؟ بكلمة أخرى، إن الكثير منهم يكذبون!! القضايا الخلافية الأساسية في مهرجان السياسة العراقي الكبير والتي انعكست على البرامج الانتخابية ليست كثيرة كما يتصور البعض، أو كما تعكسه الضجة التي يثيرها السياسيون وهم يتكلمون بحماس مطلق عن برامجهم، فإنها تتلخص في بضعة أمور كان قد انقسم الساسة العراقيون حولها، واتفق إلى حد بعيد أبناء العراق عليها عدا تلك القطعان المحزبة أو تلك التي سلبت إرادتها بقوة السلاح، أي من هذه القضايا، يعد بمثابة قنبلة موقوتة يمكنها أن تدمر كل شيء فيما لو تفجرت حقا. فما هي هذه القنابل الموقوتة في العراق؟ فصل الدين عن الدولة من أهم وأول القضايا التي اتفق العراقيون عليها، وهي أن الدين لله والوطن للجميع، لكن يأبى حملة المشاريع السياسية التي تريد لرجل الدين أن يدير دفة السياسة القبول بذلك، لذا فإن الخطاب لابد له أن يأخذ بنظر الاعتبار رغبة الشارع وينبغي تعديله وفق هذا المنطق. من جانب آخر، يجد العلمانيون إن مجرد اشتراك الأحزاب الدينية في إدارة الدولة يعني أن مشاريع علمنة المجتمع سوف تواجه بقوة مما يعطي للدين دورا كبيرا في إدارة الدولة والمجتمع وهم لا يرغبون بذلك. كلا الطرفين لا يبحثون عن صيغة وسطية حقيقية ترضي الجميع، يتمسكون بها في بناء العراق الجديد، لكن بإصرار ينزلق خطابهم نحو التدليس بصياغة العبارات الرمادية كتعبير عن تمسك كل طرف بموقفه من هذه المسألة، وهكذا يأتي الخطاب الإعلامي للطرفين متطابقا بشكل ما، لكن بذات الوقت يخفي النوايا الحقيقية لأي من الطرفين. أما بالنسبة لابن الشارع، فإن عليه أن يتعلم القراءة لما بين السطور، وقد تعلم العراقيون بالفعل هذا الفن بجدارة. اجتثاث البعث من المسائل الخلافية الحقيقية في العراق بين السياسيين لكنها لم تكن أبدا موضوع خلاف بين أبناء الشعب الذي ذاق الأمرين من ظلم النظام البعثي، جميع السياسيون يقولون إن البعث قد أجبر العراقيين جميعا على الانتماء لهذا الحزب الشمولي، ويسوقون الأمثلة التي يعرفها الجميع منذ ما يزيد على ثلاثة عقود ونصف، وعليه لا يمكن محاسبة كل الشعب العراقي لهذا الانتماء بالإكراه، لكن هناك جرائم قد ارتكبت ولابد من محاسبة المجرمين، كل هذه الأمور الأولية متفق عليها في الخطاب العراقي. عند هذه النقطة يفترق الخطاب بأكثر من اتجاه، البعثيون الذين يتنكرون لهذا الانتماء يعتقدون إن البعث فكر قومي لا يمكن اجتثاثه، في حين يجد الطرف الثاني إن الجريمة الحقيقية تكمن بطبيعة هذا الفكر كونه يمجد القتل ويهملون الجانب المهم من المسألة وهو أن هذا الفكر شمولي، ولا يقبل بالشريك، أي ضد مبدأ الديمقراطية من حيث الأساس، فلو تحدثت باقي الأطراف بهذا الخطاب فإنه سوف يقود إلى حقيقة أن أحزابهم التي يتحدثون بالنيابة عنها، أنها أيضا تحمل هذا الفايروس الخطير، ولا تقبل بالشريك لكنها مكرهة الآن على القبول بالصيغ الديمقراطية، لأن البديل هو تمزيق العراق ونشوب حرب أهلية. لذا نجد أن هذه المسألة الحساسة للغاية بقيت تراوح في مكانها ومازالت لعبة شد الحبل مستمرة بها، وربما سوف تكون أحد أسباب تراجع العملية السياسية لأن الثوابت المبدئية لكثير من الأحزاب تتعارض مع الخروج بالاستنتاج الصحيح والواجب اتخاذه، وهو رفض أي حزب يحمل مبدأ التفرد بالسلطة كإقامة دولة إسلامية تهيمن على مقدرات الدولة بالكامل ويعمل الجميع تحت خيمتها، ويتعارض هذا الحديث الصريح مع توجهات البعض الذين يحاولون اقتناص فرصة الوثوب على السلطة والتفرد بها بقوة الجيش بعد التأكد من حقيقة ولاءه لهم. لذا فإن الموقف العملي والحقيقي من اجتثاث البعث والواجب اتخاذه يتعارض تماما مع جميع الأهداف أو النوايا للكتل المتصارعة، فلو قلنا إن الموقف من حزب البعث هو أن يحظر العمل به كما يفرض أيضا حظرا على الأحزاب لشموليتها، وهذا يعني إن الطامعين بعودة تشكيل حزب البعث أو على الأقل إعادة تشكيل الجيش البعثي القديم إن عليهم أن يتخلوا عن أطماعهم هذه، وكذا على أحزاب الإسلام السياسي أن تتخلى عن الكثير من مبادئها وأهدافها والتي هي معلنة في الغالب، وإن على اليسار أن يتبرأ من الإرث القديم الذي تركته أحزاب اليسار الشمولية الطابع خلال القرن العشرين، ويعلن براءته صراحة من تلك الأفكار والأحزاب. فهل يعقل أن هؤلاء جميعا سوف يتخلوا عن أهدافهم الحقيقية وعن تراثهم وموروثهم الفكري ويتبنون مبادئ أخرى؟ لأن تبني الأفكار الديمقراطية يعني في كثير من الأحيان التخلي عن المبادئ للكثير من الأحزاب التي تساهم في العملية السياسية وهذا أمر لا يصدقه عاقل، ولو عرفنا إن مستقبل العراق يتوقف على حل هذا الإشكال والإيمان بالديمقراطية لا الادعاء بتبنيها، فإننا سوف نجد أنفسنا في مأزق حقيقي يجب التوقف عنده ووضع الحلول العملية له. الاحتلال والجيش والقوات المسلحة وما يسمى بالمقاومة هي الأخرى أخذت مساحة واسعة من النقاش والجدل حولها فيما بين السياسيين، لكن أيضا بقي العراقي قد حدد له موقف واضح من هذه المسألة وهي أن لا يكون أي دور للجيش والقوات المسلحة العراقية القديمة، لأن العراقي هو الذي واجه هذه الأجهزة، وهو الذي دخل سجونها وتعذب فيها، ومنهم من دخلها ولم يخرج أبدا. الخلاف في طبيعته لا يختلف عن المسألة السابقة المتعلقة بالموقف من اجتثاث البعث، لأن البعثيين ومن يقف بصفهم مازالوا يعتبرون وجود القوات المتعددة الجنسية هي قوات احتلال، وعليه فإن المقاومة أصبحت مشروعة وينبغي جدولة خروج المتعددة، إن لم يكن الخروج فورا، بالرغم من أنهم يعترفون بأن خروج القوات المتعددة الجنسية يمكن أن يتسبب بحرب أهلية، وبالتالي تقسيم العراق، لكنهم يطرحون الحل الذي يرفضه الشعب العراقي المتمثل بعودة الأجهزة الأمنية للنظام السابق، وهي التي سوف تتمكن من القضاء على الإرهاب لما تتمتع به من خبرة، لكن العراقي يعرف تماما إن الأجهزة البعثية ما كانت تلك الأجهزة الذكية والقوية بمعنى القوة الحقيقي، لكن لبطشها وقسوتها، بل همجيتها بالتعامل مع المستهدفين منها، هو الذي حقق تلك النجاحات الزائفة، بذات الوقت تقف الأطراف الأخرى بالمرصاد لمن يروج لعودة الأجهزة البعثية ويقولون إن من يمنح الشرعية ومصدر السلطات هو الشعب، وهذا الأخير قد فوض من خلال انتخابات الجهة التي تتحدث بالنيابة عنه، وصاحب الكلمة الأخيرة الآن في تسمية القوى التي تحمل السلاح بحجة مقاومة الاحتلال هو البرلمان، لأنه الجهة الوحيدة التي تمتلك الشرعية، حيث بعد الانتخابات لم يعد هناك شرعية لمقاومة مهما كان نوعها، ولا ينطبق عليها سوى تسمية واحدة، ألا وهي أنها عصابات إرهابية تحاول أن تستعيد السلطة للبعث لوجود فراغ سياسي كان موجودا في البلد، والشعب في هذه المرحلة والتي سبقتها هو الذي يحدد الموقف من الأجهزة الأمنية للنظام البعثي المقبور أيضا، لكن البعثي مازال يعتقد أنه سوف يستعيد مواقعه بقوة السلاح ويطعن بشرعية الانتخابات ونزاهتها ويقف على قشة في بحر هائج بتلك الحجج الواهية، لذا سوف يستمروا في مطالبتهم بإعادة تشكيل قوى الأمن الداخلي والجيش القديم، لأن عناصر هذه الأجهزة هي التي سوف يستعينون بها على استعادة السلطة للبعث كاملة غير منقوصة، وهذا يعني استمرار العنف والرغبة بالسيطرة على الجيش من جديد. فهل من صيغة عملية لحل هذا الإشكال الذي يشكل الخطر الأكبر في العراق حاليا؟ وهل سوف يتخلى أصحاب المشاريع الخبيثة عن مشاريعهم في المرحلة القادمة؟ وهل يتخلى الطرف الثاني الذي يعارض الأجهزة القديمة عن محاولة استعمال هذه الحجة لفرض السيطرة على مفاصل الدولة بالكامل وبالتالي فرض مشروعهم السياسي الذي لا يقبله أبناء الشعب؟ الموقف من المليشيات المسلحة هو الآخر من الأمور الخلافية بين الكيانات التي لديها مليشيات عن تلك التي لا تحمل سلاح، العراقي بجميع الأحوال يرفض وجود أي قوة مسلحة، وإذا كان هناك تبرير لقبول هذه المليشيات هو الدفاع عن النفس في حال عودة الأجهزة الأمنية البعثية للعمل من جديد، لكن في الجنوب لا يوجد لمثل هذه الأجهزة وجود يذكر بالمعنى الذي يخيف العراقيين، لكن مع ذلك نرى هذه المليشيات مدججة بالسلاح حتى آذانها! ولو قبلنا بمبدأ الدفاع عن النفس كيف يمكن لنا قبول الدور الذي تقوم به المليشيات حاليا بقمع الناس وإثارة الرعب في النفوس وما إلى ذلك من أعمال يندى لها الجبين؟ هل سيبقى حل المليشيات معلقا بتلك الدعوى الخبيثة لعودة تشكيل الجيش والقوات المسلحة البعثية من جديد؟ وهل سيكون هذا الأمر سببا بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر؟ فهل من صيغة عملية للخروج من هذا المأزق من خلال خطوات عملية وضمانات برلمانية في حل هذه الإشكالية التي لازمت العملية السياسية منذ يومها الأول ولحد الآن؟ الموقف من الفساد الإداري هو الآخر من المواضيع التي تقلق العراقي وتعيق كل تقدم بالعملية السياسية. العراقي يبحث عن الشفافية ومحاسبة المسيء وعدم التراخي بإجراءات الحسم، بذات الوقت يقف المستهدفون من فتح هذه الملفات داعين إلى عدم تسييسها في حين هي السياسة بعينها! ولم يحاول أي طرف من الأطراف أن يضع النقاط على الحروف وإنها تتعلق بغياب النظام الإداري الدقيق في التصرف بأموال الدولة، لأن أي طرف من الأطراف يتوقع وفي أي وقت من الأوقات أنهم سوف يكونوا في سدة الحكم، وبالتالي بدعواهم هذه سوف يسدون الطريق على أنفسهم لنهب المال العام. حل مسألة الفساد الإداري ليست صعبة، لأن العالم أوجد لها حلولا عملية من خلال أنظمة محاسبية ونظم تدقيق شفافة، والعراق يعرفها تماما، لكن الجميع لا يرغبون بعودة هذه الأنظمة للعمل لأنها سوف تفوت الفرصة عليهم بنهب المال العام فيما لو تمكنوا منه، وهذا الأمر لا نستثني منه طرف من الأطراف. إذا استطاع العراقيون وضع حلول عملية للقضايا الخلافية سابقة الذكر من خلال عقد مؤتمرات للتفاهم الوطني حولها، ووضع حلول عملية لها، وتجاوز لغة التدليس الشائعة هذه الأيام، فإن العراق سوف يصل بكل تأكيد إلى بر الأمان، أما إذا بقيت هذه الملفات مفتوحة، فإن ذلك سوف يؤدي بكل تأكيد إلى ما لا تحمد عقباه. آخر القول إن على الجميع أن لا يراهنوا على لغة خطاب خاوية رمادية اللون يعرف قراءتها حتى الأمي، وإننا كعراقيين نحمل الجميع مسؤولية غلق جميع هذه الملفات والانتباه إلى إعادة بناء الإنسان والبلد والنهوض بالعراق ليأخذ مكانه الرائد في المنطقة والعالم عموما.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |