نظراً للتخبط ولانعدام الرؤى الاستراتيجية، ولفقدان البوصلة، والخطط العلمية فإنه يتم اللجوء في كل نازلة، وملمة، ومصيبة تصيب هذه البلدان، إلى الاستعانة بالميتافيزيقيا لحل كل المعضلات. وقد درجت العادة في جميع هذه البلدان المحكومة بالغيب، والحكايا، وأساطير القدماء، والتي لم تتخذ، وحتى الآن، من العلم والأساليب العلمية وتطبيقاتها منهجا في الحكم وقيادة البلاد، على اللجوء إلى الابتهالات, والماورائيات، والتمسح بالدراويش، وزيارة المزارات، والضرب بالودع والمندل، والدعاء إلى الله لإنجاح الخطط الخمسية، وازدهار الاقتصاد، ونجاح المشروعات، وتوفير الماء والكهرباء، وإطعام المواطنين الفقراء، وربح الميزانيات، كما هو الحال أيضا بالنسبة للقضايا الأخرى الهامة كحماية الأوطان، وتحرير الأرض من الغاصب المحتل الكافر الذي لا يخاف ولا يرتدع إلا من الله، وليس من أحد في هذا العالم قادر على صد عدوانه، وإيقافه عند حدوده سوى الله القوي الجبار.
وفي الآونة الأخيرة، مثلا، حصل انحباس، وتأخر للأمطار، تلك الظاهرة الطبيعية العلمية الخالصة التي لا علاقة لها لا بالكفار ولا بالأخيار ولا بأي نوع من الكفر والسحر والإيمان، والمحكومة كليا بعوامل شتى يعرفها، ويفصفصها، ويعريها لنا الأشاوس من العلماء، فتم الاستعانة بخبراء "السماء والفضاء" الذين نذروا أنفسهم، وجعلوا منها واسطة خير بين الله وبقية الناس، لاستدرار الماء والأمطار، علما بأن هناك بدائل علمية ماحقة، كتحلية المياه وحفر الآبار حيث تكتنز الأرض مخزونات هائلة وعملاقة من الماء. ومن الجدير ذكره، فإن حدوث ظاهرة هطول الأمطار في أكثر من منطقة من العالم قائم على التموضع الجغرافي أولا لهذه الدول، وقربها أو بعدها عن مناطق سقوط الأمطار، وتخضع أيضا لتبدلات مناخية معينة، ودورات طبيعية معروفة تماما في علم الجغرافيات، قبل أي اعتبار آخر. وبالأمس القريب أقيمت في غير مكان صلوات للاستسقاء وطلب الأمطار، ولحسن الحظ، وكثرة الإيمان قد "استجابت السماء" فورا لهذه الابتهالات، والدعوات وهطلت الأمطار مدرار في عموم الأراضي والمناطق والمدن العطشى والحمد لله. فهل هناك ثمة علاقة بين هطول الأمطار، وبين رضا الله سبحانه وتعالى على هذه الأنظمة والشعوب المؤمنة والحكومات؟ هذا هو في الحقيقة ما يحاول هؤلاء جاهدين أن يقنعوا به عموم المواطنين.
وفي الحقيقة فلقد وصل علم الأرصاد الجوية، والقدرة على معرفة أحوال الطقس، ولفترات زمنية قد تصل أسابيعا وشهورا قادمة، إلى مراحل متطورة من الكمال والدقة، ويمتلك هذا العلم الآن قدرات وإمكانيات فائقة على التنبؤ أيضا بالكثير من الظواهر الطبيعية الأخرى كالأعاصير والفيضانات والعواصف وتحديد مدى سرعة الرياح واتجاهها، وتقديمها كحقائق ساطعة للهيئات والحكومات، وللمسافرين، ولكل من يتعلق عمله، ويعتمد على الأحوال الجوية كالطيران والإبحار. ولذلك فقد أصبحت صلوات الاستسقاء تحصيل حاصل في ظل هذه المعطيات العلمية الأكيدة التي لا تقبل التأويل والجدال، ونوعا من ممارسة بعض الشعائر، والطقوس الدينية الخاصة والمصاحبة للعبادات. إذ أصبح من السهل جدا الآن اللجوء لأي متنبئ جوي "موظف" لدى الحكومات التقية التي تخاف من الله لمعرفة متى، وأين ستهطل الأمطار، وبناء على ذلك تعقد النية على إقامة، أو لا إقامة الصلوات في هذا البلد أو ذاك. وقد استغل البعض هذه الناحية لإضفاء نوع من القداسة والرحمانية والورع على نفسه وعلى نظامه وإعطائه شرعية مستمدة من السماء.
ولو استعرضا المناخ السياسي السائد من قرون، والأحوال المزرية البئيسة للحياة في هذه الجغرافيات المتصحرات لوجدنا أن الجفاف، واليباس، والقفر، والقحط العام هو مايسود في جميع هذه البلدان التي تكتوي جميعا بلهيب القمع، والظلم، والاستبداد، ولتلمسنا بوضوح تام تلك الحالة المستديمة من خواء الحياة، وعطش هذه المجتمعات لأي نوع من ممارسة الحريات التي ظلت طويلا رهنا بالإرادة السامية للسلاطين، والفراعنة، والجنرالات.
وبما أن الله سميع مجيب للدعوات، وكما حصل بالأمس القريب من نزول للأمطار و استجابة الله للدعوة الخالصة لأولئك الثقاة الأبرار فنرجو أن يشملونا أيضا برعايتهم السامية والكريمة ويتذكروننا بدعوات مجانية و"على البيعة" علّ الديمقراطية تستسقى أخيرا في هذه البلاد بعد طول هجر وانكفاء، بما أن هناك شح بالديمقراطية، وقحط بحقوق الإنسان، ومَحْل بالحريات، وتصحر بالحوار، وعطش للانتخابات، وظمأ للنقاش، ونقص تاريخي في حرية الإعلام، وفقر وجوع حضاري لقطرات قليلة من تداول السلطات في الأرض اليباب، فإننا ندعو جميع الفعاليات الوطنية، ونهيب برجال الدين، وشيوخ الإفتاء والفقهاء الأجلاء، ونناشد الأمناء العامين للأحزاب، والمنظمات، والجماعات لإقامة صلوات ودعوات خاصة لاستسقاء الديمقراطية، وهطول غزير لحقوق الإنسان، ولترتوي المجتمعات عندها بحرية التعبير، والانتخابات، وتعدد الآراء.
وفي الحقيقة لم تبق سوى السماء كأمل أخير، ومرتجى كبير ليقصدها الناس للتوسط مع هذه الأنظمة المتعسفة الجائرة لتجود عليها بقليل من إنسانيتها المسلوبة. إنها المحاولة الأخيرة للجوء إلى السماء لتنعم علينا أيضا بما لديها من بركات للديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن استحالت كل دعوات الشعوب لهذه الحكومات لتجود عليها بشيء الحقوق الأساسية التي ذبلت وماتت بسبب القهرالطويل والاستبداد، والانحباس الطويل لمشاريع الإصلاح، وفشل كل المحاولات لاستنبات أي نوع من الحياة السياسية الطبيعية في الأرض البور اليباب. فلعل اللجوء للسحر، والضرب بالمندل، وزيارة الأضرحة، والتبرك بالأولياء الصالحين والصالحات، وإقامة الصلوات والابتهالات، والتضرع للمقامات تكون الوسائل الوحيدة الناجعة الباقية لهذه الأمة الخالدة للعيش بحرية وكرامة وسلام، كما بقية خلق الله، والخروج نهائيا من هذه الصحراء.