يحلو لفلاسفة العصر، ولدهاقنة الإعلام ومنظريه الثقاة، والمتمولين المتعيشين على فتات، وهبات الأجهزة التي ليس لها أية "أجندات" على الإطلاق، أن يتكلموا عما بات يعرف لدى كل من يريد تلبّس عباءة الثقافة والتفوه البلاغي بالحديث عن "الأجندة الأمريكية" الخاصة بالمنطقة العربية ويردّوا لها كل النوازل والملمات. ويذهب "فلتات" هذا العصر والشطار بعيدا في تفسير، وفصفصة، وتعرية المشروع الأمريكي في المنطقة العربية تحت البند العريض المعروف بـ " الأجندة الأمريكية" بالمنطقة للتدليل على سعة ثقافتهم، وعمق تبحرهم، وبُعْدِ تبصرهم بأمور السياسة، وأدلجة التعاسة في هذا الركن المظلم البئيس من العالم، ولا ننسى أن كلمة أجندة، وكما هو معلوم، كلمة لا تينية تعني البرنامج، وقد وجدت طريقها إلى مختلف اللغات، بفعل التقدم الحتمي، والمبارك، للعولمة، وانفتاح الثقافات بعد طول غلق، وحصار. وقد أدخل عتاولة الإعلام الممول، وشطّارهم هذه المفردة إلى القاموس السياسي اليومي المتداول في هذه المنطقة، وبنوا عليها كل تحليلاتهم، ورؤيتهم للمشاكل المزمنة التي تعاني منها المنطقة كالاستبداد، والفقر، والفساد.
فمثلا إذا عطست عنزة في سواد العراق، سينبري هؤلاء إلى تفسير هذا الأمر كله بسبب الأجندة الأمريكية الإمبريالية، والتدخلات الخارجية بالمنطقة، وإذا فُقدت ناقة في الربع الخالي فمرد ذلك طبعا إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير، والأجندة الأمريكية، والمخططات الصهيونية في المنطقة، وإذا فشلت الخطط التنموية، ونهبت الأوطان، وانهارت العملات،وتسرطنت المعتقلات وأفلست الميزانيات، وجاعت الرعية والعباد، واستشرى الفساد، وساء الإعلام، وعم البلاء، وقتل فرد على فارعة الطرقات، وتخبط الوزراء، وانسطل الساسة، وإذا تعثر، ونوّم الإصلاح، فمرد ذلك للشياطين والغرباء الذين لا يتركون الناس يعيشون بهدوء وسلام، ويردّون كل الشرور والآثام إلى ماوراء البحار والمحيطات.
ويردد هؤلاء بكل حصافة، وتذاكٍ، وخيلاء أن الأجندة الأمريكية تستهدف الإنسان العربي بالذات، ستلتهم الأخضر واليابس، هذا إذا ترك لها أصحاب "الأجندة العربية" الكرماء أي شيء تلتهمه على الإطلاق, وإذا تبقى من تمارس عليه أية أجندات بعد ذلك. ولسناهنا بموقع الدفاع عن السياسة الأمريكية، وما فعلته وتفعله من كوارث، وأخطاء، ودعم مزمن لأنظمة الطغيان باعتراف بوش حبيب العربان، حيث لا تستطيع كل عطور وملطفات الجو في العالم أن تمنع الأنوف من أن تتحرى تلك الرائحة النتنة التي تعبق في كل مكان جراء تلك السياسات الطائشة الحمقاء، والتي يحفل بها الإعلام اليوم، وكان من نتائجها المدمرة مثلا أن استقال اليوم أحد القضاة الأمريكان احتجاجا على فضيحة التجسس على المواطنين الأمريكان. ولن نأتي على العراق فالقصة معروفة للصغار والكبار. ولكن، في نفس الوقت لا يجد المرء فرقا أو فاصلا بين الأجندتين على الإطلاق، فالخاسر في كلتا الحالتين هو الإنسان الذي شاء حظه العاثر أن يقع فريسة بين هاتين الأجندتين، ويولد في هذا المكان. وفي الحقيقة فإن في مثل هذا الكلام إهانة كبرى لشعوب، وحكومات، وأفراد هذه المنطقة التي ينظر إليهم جميعا كدمى فاقدة لأية قدرة، وحيوية، ووظيفة، وهوية، وهي ما فتئت تتحرك بفعل عوامل خارجية، ولا ذاتية، ولا حول لها ولا قوة في التحكم في مصائرها، أو حتى في وظائفها البيولوجية الدونية أعزكم جميعا العزيز الجبار.
ومن المؤسف، والمحزن أن هذه البدعة، والأفزوعة، والتوليفة الآثمة تنطلي على الكثير من البسطاء، وتتحول الأنظار تلقائيا، وأوتوماتيكيا للخارج لتحميله وزر كل المطبات، والمآسي، والمشكلات، وترى الشارع مجيّشا، وبشكل آلي، وتلقائي ضد الخارج، متناسين حقيقة ما فعلته، وتفعله "الأجندة العربية" بالإنسان العربي بالذات، والتي تعلن عن نفسها بوضوح بالغ في تلك الممارسات اليومية المشينة لأنظمة الطغيان من قهر، وتسلط، واستبداد، ورفضها المعلن، وعلى رؤوس الأشهاد، للاعتراف بأي حق لهذا الإنسان، ونراها تتجلى بذاك التآلف الرائع والوحيد في اجتماعات وزرراء الداخلية العرب، وما يضمروه من نوايا حقيقية لإبقاء الإنسان أسير الخوف، والرعب، والمطاردات، والحرمان من أبسط حقوق الإنسان التي نصت عليها المواثيق الدولية والمعاهدات؟ ونلحظ "الأجندة العربية" بجلاء في تلك السياسات الشاملة، والمقصودة التي أفقرت الإنسان، وهجرّته في الأمصار، والمنافي والبلدان، وزرعت أمامه أكواما من القضايا، والعراقيل التي لا يمكن له من أن يتخطاها، ويعيش بأمان وسلام، ولو عاش ألف عام. أليست هذه أجندات واضحة، وسياسات ثابتة، واستراتيجيات متفق عليها وتنفذ بتفان، واتقان، أم هي مجرد ألعاب"بلاي ستيشن" يتسلى بها الساسة، والجنرالات عند المساء وفي اوقات الفراغ؟
وفي الحقيقة هناك أجندة عربية تاريخية وحيدة ظاهرة على السطح السياسي المليء بالرزايا والبلاوي والخطايا. أجندة واحدة، لا ثان لها، هدفها القضاء على ما تبقى من إنسانية الإنسان، وزرع الرعب والخوف في نفسه، وإرهابه، وإفقاره، وحكمه، والتسلط عليه بالحديد والنار، وتغريبه وإبعاده عن كل التيارات العصرية، والحضارية، الحداثوية والعلمية وإبقائه ضعيفا يسبح في محيط من الجهل، والفاقة، والغيب، والانحطاط. ولو اعترفنا، وسلمنا سلفا، مع كاتبي الافتتاحيات الأشاوس "الفهمانين" بالاستراتيجيات، وعتاولة الفكر الأتقياء، أن هناك فعلا أجندة أمريكية تتحكم بالسياسات، فأين هي الأجندة العربية المضادة الهادفة إلى بناء أوطان قوية منيعة، وتحرير وتكريم الإنسان بعيدا عن الخطاب الرسمي المليء بالنفاق، وتوعيته وتفتيح ثنايا مخه المدلهم الذي لم يدخله النور منذ عصور من الزمان؟ أين هي الاستراتيجيات العلمية، والخطط المستقبلية للقضاء على الفقر، والجهل، والتخلف، والأمية؟ وماذا فعل الساسة من أجل مكافحة الفساد وتسلط المقربين، والمحظيين، والمافيات المرعبة التي لا تشبع من مص الدماء، وأبناء الذوات على لقمة عيش الفقراء؟ وأين هي المشروعات الاقتصادية العملاقة القادرة على تحقيق الازدهار الذي سيفضي بدوره إلى الرفاهية والتي ستكرس بدورها إنسانية الإنسان بأعلى مراتبها، وكما هو حاصل في غير مكان؟ وهل هذه المجتمعات من القوة والمنعة والتقدم والازهار حتى تستهدفها أية أجندات أخرى، وماذا ستفعل الأجندة الأمريكية بها أكثر مما هو حاصل الآن، وهل ستستطيع إفقارها وإذلالها بأكثر مما هو عليه الحال؟ أليست هي في طور التفكك، والقهقرى، والضعف، والانحلال, والانهيار بالرغم من كل البيانات والبلاغات التجميلية والتزيينية المخدرة هنا، وهناك؟ وهل كان هناك فعلا فارق كبير بين أجندتي بوش، وصدام؟
لقد أصبحت الأجندة العربية والمحلية واضحة وضوح الشمس، وهي استمرار القمع والحصار، واستمرار الاستبداد، ورفض كل مشاريع والإصلاح، ودعوات الحوار، وإنهاك المواطن، وإفقاره عن طريق تسلط الأجهزة عليه، وتحكم حيتان المافيات بكل مفاصل الحياة، ولا أعتقد أن أي مراقب يتمتع بقدرة ضئيلة من الإبصار سيجد أي فارق في الهدف والاستراتيجية بين الأجندتين التين تتحكمان بحياة المواطن. إلا أن ما يبدو واضحا بكل حال، أن الفوز، والتفوق، والسبق كان دائما من نصيب الأجندة العربية التي لم تنصف الإنسان أوترحمه على الإطلاق، وهي التي ستمهد، حتما، وفي المحصلة، لكل ماهو آت من "أجندات".