الشعب العراقي جدير بالديموقراطية ..ولكن ..!

 

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktoob.com

شغلت الانتخابات العراقية ، ولا زالت تشغل اهتمامات الرأي العام العالمي والعربي والمحلي ، بممارساتها ونتائجها . وعن جدارة انتزع الشعب العراقي ، بمختلف طوائفه وقومياته ، إعجاب العالم عندما توجه نحو صناديق الاقتراع ، للإدلاء بصوته ، بشجاعة نادرة ، وكثافة غير معهودة ، حتى في الكثير من دول العالم المتقدم ، على الرغم من التهديد بالقتل والتفجير ، من قبل السلفيين والوهابيين وبعض أجنحة \" المقاومة الشريفة \" ، لكل من يحاول الوصول إلى المراكز الانتخابية . إن ما أنجزه العراقيون ، بكل طوائفهم وتوجهاتهم ، عبر عن إيمانهم العميق والمطلق بالوحدة الوطنية ، وتصميمهم المسبق على حسم خياراتهم باتجاه نبذ العنف والطائفية ، والتمسك بالديموقراطية نهجا وممارسة ، لتقرير مصيرهم ، وجعل الورقة والقلم هي الطريق الأفضل والأسلم ، للوصول بأمان ، إلى صناديق الاقتراع وقبة البرلمان ، لصراع الأفكار والقيم والبرامج ، بديلا عن عنف البندقية والرصاصة ، المجربة ، بعدم حلها لمشاكل الشعب الداخلية ، كانت هذه قناعة غالبية الشعب ، حتى الفصائل التي كانت تنحو نهجا مغايرا .. كان هذا التقييم ما أجمع عليه المثقفون والكتاب والمراقبون والمحللون السياسيون ، عراقيون وأجانب ، بكل توجهاتهم السياسية والفكرية والطائفية ، إلا أن البعض اخذ الجانب الإيجابي والظاهر ، وهو إقبال الشعب العراقي على ممارسة حقه في التصويت ، ليعتبر العملية الانتخابية ، ديموقراطية وناجحة ، دون النظر إلى المكونات والعوامل الأخرى المساعدة لنجاح العملية ، والمتمثلة في :ـ
1ـ الحكومة وإجراءاتها المتخذة لتوفير الأمن ، وحيادية أجهزتها الأمنية ، بالوقوف على مسافة واحدة من كل القوى المتنافسة ، على مقاعد المجلس النيابي الجديد ، وحماية المواطنين والمقترعين ، وضمان عدم الاعتداء على حريتهم ، ومراقبة من يحاول تخريب العملية الانتخابية .
2 ـ المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ، ودورها المتمثل في الإشراف على حسن التنظيم والإعداد لجهازها الإداري ، ولكل ما له علاقة بالناخب والاستمارة وحتى الفرز وتوقيت إعلان النتائج ، إضافة للمراقبة والإشراف على سير الانتخابات ، نزاهتها ومراقبة تنفيذ تعليماتها المبلغة للكيانات السياسية ، بما فيها الوقت المحدد للدعاية .
3 ـ سلوك الكيانات السياسية وممثلو القوائم .
عند تقييم العملية الانتخابية ، بحيادية ودون انحياز طائفي أو قومي ، من الضروري الأخذ بنظر الاعتبار العوامل الثلاثة ، دون تجاهل لبعضها أو اجتزاء جزء منها ، وبدون هذا نكون متعسفين بإصدار الحكم على أن العملية ناجحة أو فاشلة .
الكل يعلم أن الحكومة لم تكن حيادية في موقفها ، فهي طرف في المنافسة ، حكومة ائتلاف طائفي شيعي ـ عنصري كردي ، وما أطلق عليها بوقتها أنها حكومة وحدة وطنية ، تجاوز على الواقع ، وتحميل الكلمات معان لا تحتملها . وعلى ضوء هذا االواقع ، كانت الشرطة وقوات الأمن الأخرى ( حرس وطني وجيش ) وقياداتها خاضعة بالكامل لتوجيهات قياداتها من حكومة الائتلاف ، ولم تستخدم هذه القوات ولاءها الوطني لخدمة كافة القوائم ، بل كانت منحازة ، وهذا ما أثبتته الوقائع ، بعدم حماية المتنافسين ، عندما تم اغتيال عناصر من الحزب الشيوعي والوفاق في مدينة الثورة والعمارة ، وحرق مقري الحزب الشيوعي والوفاق في مدينة الناصرية ، كما قتل رئيس قائمة قومي ، كل هذا حدث دون تدخل من قوات الشرطة والأمن ، علما أن الحكومة هي للشعب العراقي كله وليست لطائفة دون أخرى . فالأمن للجميع لم يكن متوفرا للناخبين ، وخصوصا عند مداخل ومقرات المراكز الانتخابية ، وهذا ما جعل العملية بأسرها ، خاضعة لابتزاز وتزوير كيان واحد أحد معروف . نجاح أي عملية انتخابية في مثل ظرفنا الحالي ، مرهون بفعالية ونشاط قوى الأمن وحيادها، فهل نستطيع القول أن الأمن كان للجميع ؟ أما بالنسبة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات ، فلم تطبق قانونها وتعليماتها ، فهي أول من خرق القواعد التي رسمتها للآخرين عندما أعلنت أن النتائج لن تعلن قبل الأسبوع الأول من كانون الثاني ، إلا أنها فاجأت الرأي العام العراقي والعالمي ، عندما أعلنت عن أكثر من 80 % من النتائج النهائية ، خصوصا في المنطقة الوسطى والجنوبية ، فماذا يدلل هذا ، إن، لم يكن هذا مساهمة في التزييف والتزوير ، ولمصلحة جهة واحدة معينة ، فما هو التزوير إذن ؟ المفوضية لم تكن مستقلة بدليل الانتماءات السياسية لبعض رموزها المتنفذة في الهيئة ، والتي أثبت الواقع بدلائل مختلفة ، أنها لم تكن حريصة على تنفيذ القواعد التي شرعتها ، هي نفسها ، حرصا على سلامة ونزاهة الانتخابات . لم تعترض على تعليق القرآن عند باب الدخول للمركز الانتخابي ، وكمسلمين يمارس هذا الفعل ضغطا على حرية الناخب . وقد ُمنع الكثير من ممثلي الكيانات المناهضة للقوائم الطائفية من الدخول إلى المراكز الانتخابية ، إلا بعد أن امتلأت الصناديق بأوراق مزورة ، وقد اعترف السيد حسين الشهرستاني ، نائب رئيس الجمعية الوطنية ، والعضو البارز في الائتلاف الطائفي ، حين قال \" لاحظنا بعض التجاوزات وحددنا نوعية ووقت التجاوز ، لكن هذا لايعني التشكيك في عمل المفوضية ، وإذا كان هناك تشكيك في صندوق الاقتراع فيمكن الغاؤه \" هذا اعتراف خطير ، رغم محاولة تهوين الأمر والتقليل من نتائجه . عندما يتواجد ممثلون لكيان معين بشكل طاغي ، يكون من الصعب مراقبته من قبل الكيانات السياسية الأخرى ، إن وجدوا ، فتجربتي الشخصية ، كان هناك مدخل واحد للدخول وآخر للخروج من المركز الانتخابي الذي صوت فيه مدينة \" يوتوبوري \" السويدية ، وعندما أنهيت التصويت وتوجهت نحو الباب الثاني المعد للخروج ، التقيت وجها لوجه بعناصر تدخل ، ولما سألت لماذا تدخلون من هنا ؟ أجاب المسؤول إنهم مرضى ، تفرست بوجوههم الملتحية ، كانوا كلهم من الشباب المفتول العضلات ، على الرغم من تسهيلات قدمت للمرضى من باب الدخول الرئيس ، فكم من مثل هؤلاء َصًوت ، وكم مرة بين غاد ورائح .؟ أثبتت الجماهير العراقية الشعبية ، أنها أكثر شعورا بالمسؤولية وحرصا على نجاحها، وأكثر تحضرا ووعيا وحفاظا على قواعد السلوك الاجتماعي ، وتقبلا للممارسة الديموقراطية ، وانضباطا لشروطها ، من بعض الشخصيات وممثلي الكيانات السياسية ، لتقيدها ، بشكل عام بتوجيهات المسؤولين عن العملية الانتخابية ، وعدم خرق قواعدها . أما القادة السياسيين ، من قادة الكتل السياسية والكيانات الطائفية ، فهم على الأغلب من اتصفوا بمستوى جيد من الثقافة والتعليم ، وعلى قدر من التحضر والسلوك المدني ، والبعض منهم من قد أقام ودرس في الخارج واطلع على تجارب الأنظمة الديموقراطية في تلك البلدان ، وربما مارس الكثير من الفعاليات السياسية فيها ، إلا أن واقع الانتخابات أثبت أن البعض منهم كان وراء الكثير من الانتهاكات والخروقات التي حدثت في الكثير من المدن ومراكز التصويت ، في القتل والتحريض عليه ، ودفع البعض للقيام بأعمال مخلة ومؤثرة على سير العملية ديموقراطيا وتزوير إرادة الناخبين ، وخرق حرمة الدستور ـ الذ ي صنعوه ـ وانتهاك مواده ، انتهاك حرمة المواطن وحريته ، وحتى قتله ، أو تهديده بالقتل ، وتهديد عائلته ، والضغط عليه في تغيير قناعاته ، بوسائل شتى ، ودفع بعض ضعاف النفوس ، عن طريق الرشوة والابتزاز على ارتكاب أفعال مخلة بكل القيم والمفاهيم الإنسانية . فمن حرض وزور وزيف وتستر هم القادة ، وليسوا أناسا بسطاء ، فلابد من عقاب قاس ومضاعف ، وإلا كيف يمكن أن تكون الدولة وشكلها ، إذا كان حكامها مزورون ومحرضون على كل جريمة ، بما فيها القتل أو التحريض عليه. أما أن نتستر على مثل هذه الجرائم والانتهاكات ، ونزعم أنها ناجحة ،أو ندعي أنها البداية لممارسة الديموقراطية ولا بد من وقوع مثل هذه الأفعال ، ولابد من تجاهلها .. أقول نعم هذا صحيح يحدث مثل هذا ، ومثل هذا يحدث أيضا ، من ٍقَبل أعداء الحرية والوطن ، ولكن ليس بدون عقاب ، وعقاب رادع وليس بالتساهل والتغاضي ، وليس قبل أن يحرم المستفيد والمنتفع من مثل هذه الخروقات والجرائم ، عملا بالقاعدة الفقهية \" من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه \" ، كما وليس قبل أن ينال الجاني عقابه ، وتعويض المتضرر .
إن أردنا أن نبني أسسا لمبادئ ومفاهيم ديموقراطية ، علينا أن لا نتجاوز أي خرق قبل أن نحاسب القائمين به وعليه ، لينالوا جزاءهم ، مهما علا مركزهم ، ومهما سما شأنهم ، وبلغ بهم المقام ، فليس هناك أعلا مقاما من الشعب وحريته ، ولن يسمو أحد،فوق سمائه ، وإلا فلن نكون قادرين على تجاوز الفساد والمفسدين مستقبلا ، وسنعود للمربع الذي كنا فيه مع النظام الفاشي ، لنؤسس لفاشية أدهى وأمر ، ولم يكن قد تغيرت فيه سوى الوجوه ، وسيعشعش الفساد من جديد أكثر مما كان وما هو كائن فعلا ، وسيتسع خرق الدستور إن لم يستبدل بغيره ، ويتعطل كل حل على الشعب العراقي ، ولن نكون قادرين على إصلاح من أمرنا شيئا.. مع اعتذاري لكل الديموقراطيين والمنظرين الذي اصطفوا طائفيا مع المزورين والقتلة ، بذريعة أن تجربتنا الديموقراطية وليدة ولا بد أن ترافقها أخطاءها . نعم ، ولكن لا بد من دفع الثمن ، من قبل مشوهي تجربة الشعب العراقي ، فالشعب العراقي جدير بالديموقراطية والعيش بكنفها ، ولكن ليس قبل إدانة مرتكبي الجرائم .
 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com