أزمة المشتقات وبعض الحلول المقترحة

حمزة الجواهري

hjawahri@hotmail.com

كنت قد نشرت مقال بعنوان "المشتقات النفطية هي التي سوف تحرق العراق" (يوجد رابطين للمقال في ذيل المقترح) كنت قد عالجت به الأسباب الحقيقية وراء أزمة المشتقات البترولية في العراق والتخبط الذي وقعت به الحكومة لحل هذه المشكلة، خصوصا بعد أن دخل البنك الدولي على الخط كطرف ضاغط على الحكومة لرفع الدعم عن هذه المشتقات كشرط أساسي لشطب جزء كبير جدا من الديون العراقية.

إن الأزمة من حيث الأساس نشأت حين زادت الحكومة سعر المشتقات بنسبة بسيطة جدا، بحيث أن سعر لتر البنزين على سبيل المثال أصبح مئة وخمسين دينار، في حين إن سعره الحقيقي يصل إلى ثمانمائة دينار بعد إضافة كلف النقل وأرباح الموزعين والهدر عند النقل، وهذا يعني إن الأزمة الحقيقية باقية والدعم باق ويكلف الدولة ما لا يقل عن عشرة مليارات دولار سنويا، بكلمة أخرى إن الزيادة التي أقامت الدنيا سوف تبقى تهدد الاقتصاد العراقي والمجتمع ككل، لأن الحكومة سوف تعود لزيادة أسعار المشتقات عدة مرات لتصل بأسعار هذه المشتقات للمستويات العالمية، وهذا يعني إن هذه الزيادات المتعاقبة سوف تحدث هزات متتالية قد تطيح بأكثر من حكومة، في حين تبقى الأزمة دائما تعيق عملية إعادة الأعمار والقضاء على الإرهاب، لأن المستفيد الأكبر من تهريب المشتقات النفطية هذه الأيام هو تلك العصابات المسلحة ومليشيات الأحزاب التي معظمها يشارك بالسلطات العراقية حاليا ومستقبلا، وهذه الجهات هي المسؤولة عن أعاقة أي جهد حقيقي لحل الأزمة بشكل حقيقي وواقعي، لأنها ستكون المتضرر الأكبر.

لكن حين ندخل في تفاصيل الموضوع تتكشف الكثير من الجوانب التي أهملتها الدولة ما أدى بها لاختيار أسوأ الحلول، وفي الواقع سوف يزيد من تعقيد الأزمة أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي، ولا أريد أن أكون سيء الظن وأتهم، لكن لنقول إنه تخبط تنقصه العقلانية والدراسات المطلوبة.

كنت في واقع الأمر قد فكرت كثيرا في هذا الأمر وكتبت كثيرا أيضا لكن لم أنشر مما كتبت شيئا لعدم وجود مشروع متكامل في ذهني آن ذاك، ولكن بعد أن اشتدت الأزمة، عدت إلى قصاصات الورق والمسودات التي أهملتها بعض الوقت لكي أخرج بهذا المقترح الذي أضعه مختصرا بين يدي القراء والمسؤولين في الحكومة الحالية أو الحكومة القادمة والتي سوف تطول فترة حكمها مدة أربعة أعوام، مفترضا حسن النية، ورهاني الوحيد على الوطنيين الشرفاء في المنطقة السلطتين التشريعية والتنفيذية.

إن مفردات الأزمة ببساطة تتمثل باستهلاك الوقود في وسائل النقل داخل وخارج المدن، والاستهلاك المنزلي، والوقود المتعلق بالصناعة بمختلف أنواعه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هناك بعض المفردات المتعلقة بالأزمة وهي تحديدا عمليات التهريب التي تقوم بها المليشيات والعصابات المرتبطة معها، ومراكز النفوذ التي تتستر عليها وتدفع عنها بكل وسيلة، وهناك عناصر أخرى تتعلق بالأزمة وهي جميع الأعمال التي تحتاج في لوجستيتها إلى النقل.

لكي يتمكن العراق من تقديم الدعم لهذه المشتقات عليه أن يصرف من خزينة الدولة المنهكة أصلا مبلغ يصل إلى تسعمائة مليون دولار شهريا، أي مبلغ احد عشر مليار سنويا، كدعم على المشتقات بأنواعها بعد إضافة ما تنتجه المصافي العراقية من مشتقات، وهذا المبلغ يذهب دون أن يكون له مردود اقتصادي على الدولة بأي حال من الأحوال، ومن الملاحظ هنا إن المحور الأساسي للموضوع هو النقل، ففي حال توفر مؤسسة للنقل العام تفي بكل الاحتياجات للعراق سيكون الجزء الأكبر من المشكلة قد تم حله، ولو أراد العراق أن يعيد إنشاء مؤسسات النقل العام التي كانت تقدم خدمات واسعة للمواطنين بداخل المدن وفيما بينها، وبعمليات حسابية بسيطة، يمكن لمؤسسة تمتلك عشرة آلاف مركبة من مختلف الأنواع، نستطيع القول إنها سوف تقضي على أي أزمة للنقل من أي نوع كان. وهنا أحاول أن أقدم دراسة جدوى اقتصادية مبسطة جدا لمشروع من هذا القبيل، وكذلك أقدم مشروع تكافل اجتماعي متكامل وسخي جدا يساهم بسد جميع احتياجات الأسرة العراقية الفقيرة، لأن الأسر الغنية لا يعنيني أمرها بأي حال من الأحوال، فهي تستطيع تدبير شؤونها بشكل جيد مهما كان سعر الوقود ومهما كان عدد السيارات التي تملكها تلك الأسر الغنية، والتي بعضها وصل غناها إلى مستويات لم تعرفها المنطقة، حتى تلك العائلات الخليجية الغنية لا تستطيع مجاراتها في الغنى.

من المعروف في المجتمعات المتطورة، أو تلك الدول التي نسميها الدول الغنية، إن الغالبية العظمى من سكانها تعتمد على وسائل النقل العام، سواء كانت مملوكة من قبل الدولة أو تملكها شركات وطنية خاصة، فإن مترو لندن على سبيل المثال، يقال أنه يقدم خدماته لأحد عشر مليون إنسان يوميا، وهذا يعني إن الغالبية العظمى من السكان فعلا تعتمد على النقل العام، فلم لا يجد العراقي هذه الوسائل المتحضرة للنقل العام بداخل المدن وفيما بينها؟ وبذات الوقت تساهم هذه الوسيلة بالقضاء على أكبر أزمة تواجه الحكومة الحالية والحكومات القادمة؟ ولكن مع ذلك فإن مشرعنا يمكن أن يكون البديل الحقيقي والواقعي مع الأخذ بنظر الاعتبار التوسع بخدمات سكك الحديد والنقل الجوي والمضي بمشروع مترو الأنفاق في بغداد.

ولامتصاص النقمة التي كانت الحكومة تتوقعها كنتيجة لزيادة أسعار المشتقات، وعدت بذلك المشروع البائس الذي يهدف إلى توزيع بعض الأموال التي سوف يتم توفيرها من هذه الزيادة، على أنها ستوزع على العائلات الفقيرة، حقا إنه تهريج لا يرقى إلى أن يكون دعاية انتخابية، فما قيمة مبلغ أربعمائة دولار توزع على فقراء العراق؟! إنه مبلغ لا يكفي لسد رمق الجياع، لكن ما نقترحه الآن هو إطلاق صندوق حضاري سخي للتكافل الاجتماعي يرافق إطلاق الزيادة مرة واحدة لتصل للأسعار العالمية.

الخطوط العريضة لدراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع النقل العام:

العراق يسكن فيه خمسة وعشرين مليون إنسان تقريبا، منهم عشرة ملايين يحتاجون إلى نقل بمعدل نقلة واحدة يوميا سواء بين المدن أو بداخلها، وهذا في المرحلة الأولى لإطلاق المشروع.

في بغداد وحدها نستطيع تسيير مئة خط لنقل الركاب، كل خط منها يحتاج إلى عشرين حافلة لنقل الركاب، وهذا يعني إن بغداد تحتاج إلى ألفي حافلة يتسع كل منها إلى ستين كرسي، تستطيع أن تقدم خدمات لما يقرب من مليون ونصف المليون. هذه الأنواع من الحافلات لا يكلف الواحد منها أكثر من مائتي ألف دولار. المجموع بحدود أربعمائة مليون دولار.

النقل بداخل المحافظات العراقية الأخرى يكون بمعدل مائتي حافلة للمحافظة الصغيرة وثلاثمائة للمحافظات الكبرى كالبصرة أو الموصل، من مختلف الأحجام، منها كبيرة بستين راكب ومتوسطة بعشرين راكب وأخرى صغيرة بعشرة ركاب. المجموع الكلي أربعة آلاف حافلة من مختلف الأحجام. المجموع بحدود خمسمائة مليون دولار محسوبة على أساس الأسعار العالمية للسيارات.

للنقل بين المدن قد نحتاج إلى ألف حافلة سياحية من الأنواع الجيدة في المرحلة الأولى، يصل سعر الواحدة منها إلى 300 ألف دولار. المجموع بحدود ثلاثمائة مليون دولار.

كراجات للتصليح وتقديم الخدمات ونقل الركاب ومكاتب للموظفين لإدارة مثل هذه المؤسسة الكبيرة. الكلفة الإجمالية لهذه المنشاة لا يمكن أن تزيد على ثلاثمائة مليون دولار للمرحلة الأولى من المشروع.

وهكذا يكون المجموع الكلي لما تحتاجه الحكومة لإنجاز مشروع النقل العام في العراق هو مبلغ مليار ونصف المليار دولار فقط لتقديم خدمات نقل تعتبر راقية بكل المقاييس، وبذات الوقت يكون لدينا مؤسسة ربحية تستطيع أن تدر على الدولة أرباح معقولة جدا.

في مؤسسة من هذا الحجم تستطيع الحكومة أن تقدم فرص عمل من خمسين إلى ستين ألف فرصة عمل.

افترضت الدراسة أن أرباح هذه المؤسسة يساوي صفر بعد تغطية الكلفة التشغيلية للمشروع وكلف التجديد من عائداته.

يمكن للحكومة بيع المشروع برمته للقطاع الخاص بعد أن تشترط تدخلها المباشر بأسعار النقل وعدم زيادته دون الرجوع للدولة، وكذا عدم التلاعب بحجم المشروع.

يمكن للحكومة بعد إنشاء مثل هذه المؤسسة الخدمية أن توقف أي نوع من أنواع الدعم على الوقود وتحرير أسعاره مباشرة لتكون متفقة مع الأسعار العالمية.

مشروع التكافل الاجتماعي المقترح والذي يجب أن يصاحب عملية إطلاق الأسعار للمستويات العالمية:

بذات الوقت يمكن أن تقدم الحكومة مبلغ200دولار شهريا لمليوني عائلة عراقية دون خط الفقر المدقع، ومليون عائلة أخرى قريبة من هذا الخط بواقع معونة يصل إلى100دولار شهريا، الميزانية السنوية لمثل هذا الصندوق أربعة مليارات دولار، وهذا المبلغ يمثل حوالي37%فقط من قيمة الدعم الذي تقدمه الدولة للمشتقات.

هذه المبالغ يمكن زيادتها إلى الضعف وبذات الوقت رفع رواتب المتقاعدين ورواتب الموظفين في السلم الوظيفي حاليا مما ستوفره من الدعم المالي للمشتقات.

تقديم دعم لشراء الوقود للشاحنات التي تنقل جميع أنواع البضائع في العراق بواقع يكفي استهلاكها الشهري من الوقود على أساس ملكية هذه الشاحنات، حيث مثل هذا الدعم لا يمكن أن يصل إلى أكثر من عشرين مليون دولار شهريا، أي مائتين وأربعين مليون دولار سنويا تقدم على شكل كبونات لأصحاب الشاحنات. عملية الحساب تكون بواقع مئة ألف شاحنة من مختلف الأنواع تعمل في العراق، وإن معدل استهلاك الشاحنة الواحدة يوميا على أساس أنها تعمل لمدة عشرة ساعات. هكذا يكون معدل كلفة الوقود بحدود ألفي دولار شهريا، وهذا الرقم كبير جدا لكن أسعار زيت الغاز (الديزل) العالمية أيضا عالية.

تقديم دعم لجميع أصحاب الصناعات التي تحتاج إلى وقود بشكل مباشر على أساس من حجم الضرائب التي تتحصل منها، وهي التي ينبغي أنها محسوبة على أساس ربحية الوحدة الصناعية، إن مثل هذا الدعم قد لا يحتاج في هذه المرحلة إلى أكثر مما تحتاجه الشاحنات.

المجموع الكلي الذي تصرفه الدولة لرفع سعر المشتقات بأنواعها هو خمسة مليارات دولار ومائتي مليون دولار في السنة الأولى، سوف تقل في السنوات القادمة لأن الحافلات لا تستهلك بسنة واحدة، ولا المكاتب أو الكراجات. وكما أسلفنا، إن حجم الدعم الذي تقدمه الدولة هو أحد عشر مليار دولار سنويا، وهكذا تستطيع الدولة أن توفر مبلغ خمسة مليارات دولار في السنة الأولى، ويزداد حجم التوفير في السنوات التي تلي إلى أكثر من ستة مليارات دولار سنويا. أما لو كانت الدولة أكثر سخاءها مع الفقراء في مشروع التكافل الاجتماعي كما أسلفنا، فإن التوفير سوف يكون بحدود ثلاثة مليارات دولار.

بعد تحرير أسعار المشتقات لتكون بالمستوى العالمي، سوف تقضي الحكومة تماما على كل أنواع التهريب للمشتقات، وهكذا تكون قد أضعفت عصابات التهريب والمليشيات المسلحة بعد قطع أهم وسيلة من وسائل تمويلها، وتكون بذات الوقت قد أطلقت أعظم مشروع للتكافل الاجتماعي في الشرق الأوسط وأفضل شبكة للنقل العام، وبهذا المشروع تكون الحكومة قد قطعت الطريق المتلاعبين بأسعار النقل لجني المزيد من الأرباح على حساب المواطن، وتكون قد وفرت فرص عمل لأكثر من خمسين ألف عراقي.

بمثل هذا المشروع تكون الحكومة قد حققت أكبر نقلة موضوعية على مختلف المستويات، وتكون قد وضعت الحجر الأساس للقضاء على الإرهاب في العراق الذي يعيق كل شيء.

الوقت الذي يحتاجه المشروع لإنجازه بالكامل من ثلاثة إلى خمسة أشهر.

هذه الأرقام يمكن أن تختلف بعض الشيء عن هذا المقترح في حال إجراء الدراسات التفصيلية، ولكن ليس بشكل كبير، لأن، على سبيل المثال وليس الحصر، أسعار الحافلات الكبيرة تقع ما بين مئة وخمسين ألف دولار إلى مليون دولار لبعض الأنواع الفارهة جدا، وهذا يعني ضرورة التقييد بالحدود المالية التي يتم تخصيصها للمشروع.

لكن يبقى السؤال الأهم، هل سوف تعيق إطلاق هذه المشاريع المتزامنة تلك العناصر المستفيدة من تهريب النفط والمشتقات في المنطقة الخضراء أو تلك المليشيات التي تحمل السلاح؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com