تأبي الجامعة العربية، وممثلوها الأشاوس، أن يودعوا جميعا هذا العام المثقل بالكوارث، والدماء، والأهوال، إلا بنوع من تلك الفقاعات، والدعابات التي اعتادت أن تلقيها في الوقت الميت، والضائع والمسروق من أعمار هذه الشعوب التي لم تعد تنطلي عليها هكذا "حركات"، والتي وقعت، خطأ، ضمن النطاق الاستراتيجي والحيوي لعبثها الدائم والذي لا ينتهي بمصائرهم، وألحت بأن تطلق آخر صيحاتها التجميلية، والديمقراطية بتأسيس البرلمان العربي الانتقالي، الذي أعلن اليوم، وسط نفس المراسم المعهودة، التي تكتنف نشاط النظام الرسمي العربي عموما، وما يترتب عليه من طقوس بروتوكولية جامدة، نمطية، مليلة، وصماء، إلا أنها أصبحت تقاليد راسخة في عمل الجامعة العربية وأنظمتها القدرية. ولكن لا أعتقد أن بمستطاع أحد مجرد الابتسام من إطلاق تلك الدعابة السمجة في هذا الوقت بالذات الذي يعاني فيه الجميع من جحيم الاستبداد، وتغول الفساد، وسيطرة المحاسيب والمحظيين والأزلام والمافيات على مجمل النشاطات السياسية، والاقتصادية، والثقافية في طول البلاد العربية وعرضها.
ولذا لا يستطيع المرء، الآن، إلأ أن يذرف أنهارا من الدموع، يمكن أن يقام عليها سدودا تنير القرى المظلمة والمنكوبة على طول خريطة الدول التي تتبع للجامعة العربية، وتروي أراضيها العطشى القاحلة، والعارية الجرداء، بسبب هذا الإعلان، ونظرا لحالة الهوان والاستخفاف التي وصلت بهذا الكيان الصوري المشرعن لأنظمة التسلط والطغيان، والمبرر لكل أفعالها تجاه شعوبها التي وصلت الحضيض اجتماعيا، واقتصاديا، وحضاريا. ويمكن، ومن عائد تلك السدود أن تبنى المدن السكنية للمشردين في الفلوات، وتخصص علاوات اجتماعية للفقراء، وتشاد المراكز الصحية والمستشفيات لعلاج الناس من الفالج، والأورام، والأمراض العضال، والأدران التي علقت على القلب جرّاء متابعة تلك السياسات الحمقاء.
وباستثناء عدد أقل من ضئيل، يمكن القول أن هناك نوعا ما، وإن كان ينقصه التحرر كليا من مشيئة القادة والزعماء، من الممارسة الديمقراطية، والحياة البرلمانية في بعض الدول العربية. ولكن، لم نكن ندري، في الحقيقة، أن في السودان، وموريتانية، والصومال، وجزر القمر، والسعودية، وعُمان برلمانات منتخبة بشكل ديمقراطي ونزيه، ولها ممثلون مسؤولون أمام الشعب، وصلوا عبر برامج انتخابية، واحتموا بقبة البرلمانات، سوى في هذا اليوم المعهود الذي أعلن فيه عن هذا الفتح العظيم، في فضاء الأعراب الفسيح الذي ملأ الكون ديمقراطية، وشرعية، وبرلمانات. ولو تحرينا أيضا التاريخ الطويل للجامعة العربية، ومجمل نشاطاتها، ومدى انعكاس ذلك ازدهارا وتنمية ورفاهية للإنسان العربي، أو أية مواقف أخرى توضع في ميزان حسناتها، لاعترانا الذهول، والفزع من هول الفاجعة من النتائج المترتبة على هكذا مغامرة، أو مقامرة خاسرة سلفا. فلم تفلح الجامعة، بكل زخمها القومجي، حتى الآن، في حل أية قضية عربية بينية ثنائية، أو أن تقدم مشروعا متكاملا لنهضة عربية شاملة في كافة ميادين الحياة، على غرار البرلمان الأوروبي الذي تحاول تقليده شكليا اليوم من خلال هذا الإعلان، أو تقنع أي مواطن عربي بجدوى، وأهمية وجودها على الإطلاق، بل على العكس كانت مصدرا للمشاكل، والمشاحنات، والمنازعات، ووقفت على الدوام في صف الأنظمة، وفي موقع مغاير وعلى النقيض، من رغبة، ومصالح الشعوب التي تمثلها في أكثر من قضية، ونزاع. ولكن، ولكي نكون منصفين، يجب الإشادة والإشارة، دائما، إلى اللقاءات المظفرة، والناجحة دائما لاجتماعات وزراء الداخلية العربية التي افلحت في الإجهاز كليا على أماني وتطلعات شعوب المنطقة بحياة ملؤها الكرامة، والاحترام، والأمان، وامتهنت فيها حقوق الإنسان العربي إلى الدرجة التي وصلت الحضيض عالميا، وهو الإنجاز الأبرز للجامعة العربية، وذراعها الأمني ممثلا بوزراء الداخلية العرب.
وإذا كان الدافع من وراء هذا الإعلان بروتوكوليا وشكليا كما جرت العادة، فإن كل شيء مفهوم وما عدا ذلك فهو لهو وعبث، وليس بذي طائل على الإطلاق، أو ربما لإرسال رسائل ترضية، ومجاملة مختلفة، وفي عدة اتجاهات، ولا سيما إلى الغرب عامة المحرج من "مصاهرة" أنظمة تنتمي للحقب الديناصورية العمياء، والذي يطالب بمزيد من الاستحقاقات والإصلاحات على طريق تدجين، وشرعنة أنظمة الاستبداد، والفساد تمهيدا لإعادة صياغتها، وهيكلتها، وإشراكها في "العملية الديمقراطية"، وإعادتها إلى الحياة بعد سباتها الأبدي، ولإحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير، نظرا للخدمات الجليلة التي قدمتها سابقا، تعزيزا للاستراتيجية الغربية في المنطقة، وكونه، وفي ظل المعطيات الراهنة، وتعثر المشروع الأمريكي عربيا، فليس بالوارد، أو بالإمكان، أو حتى بالنية، "الاستغناء" عن بعض، أو حتى أي من هؤلاء اللاعبين، فلا ضير إذن من إجراء بعض العمليات التجميلية، وإحداث بعض "الخلخلة" في البنيان، وتحريك المياه الآسنة الراكدة ولو ببعض "الحصى" الديمقراطية هنا وهناك، والظهور على الشاشة، وأمام الرأي العام بمظهر المتجددين الراغبين بالتحديث، والتطوير، والإصلاح، وإطلاق هذه البالونات الدعائية بين الفينة والأخرى.
أم هو محاولة أخيرة ويائسة لتقليد ومحاكاة البرلمان الأوروبي الذي قطع أشواطا طويلة على طريق الوحدة السياسية، والنقدية، والاقتصادية بشكل عام، ويعتقد من العبث مجرد التفكير بمنافسته في أي مجال؟
وفي الحقيقة فإن شرعية هكذا برلمان شامل جامع منوطة، قبلا، بوجود برلمانات منتخبة ديمقراطيا، وشرعيا في البلدان التي تمثلها أصلا، كما هو حاصل مثلا في البرلمان الأوروبي، وبقية الدول الأخرى التي تتسم انتخاباتها بالنزاهة، والذي يضمن ويكفل الكفاءة والتمثيل الشرعي بعيدا عن التعيين بتلك الطريقة البدائية، القبلية، والعشائرية الحاصلة حاليا والتي تمتثل لمشيئة السلطان، وتعتمد على بقية الولاءات، والعلاقات، والحسابات المختلفة التي نراها في معظم هذه البلدان التي تحاول أن تظهر على الملأ بأنها مهد الديمقراطية ولديها تاريخ، وعراقة برلمانية تبز نظيرتها الأوروبية.
وأما إذا قرأنا، جيدا، التصريحات التي رافقت هذا الإعلان المثير، ومن أحد رموز النظام العربي الاستبدادي التقليدي الذي ذكّر بـ"الطريقة العربية الخاصة" بالنظرة لحقوق الإنسان، والديمقراطية، سنعلم تماما، ونعي المدى النهائي، والمنحى الديمقراطيى الأبعد الذي سينحوه هؤلاء البرلمانيون الجدد، وسيعلم المرء دونما عناء، أيضا، معنى التلميحات المنطقية، وفحوى التضمينات الحقيقية لمثل تلك التصريحات. وإذا كانت معظم تلك البرلمانات أصلا، بما لديها من كيان، وبرامج، وأجندات، مجرد وهم وسراب كرتوني مخادع، ويكتنف وجودها، برمته، الشك والارتياب، فإن برلمان الجامعة العربية سيكون، وبالتأكيد، سراب السراب. فهل هناك، بعد ذلك، من عاقل، يعول، حقا، على سراب، أو ضباب؟