خدام .. الشاهد والمدان

ياسر سعد / كندا

yassersaed1@yahoo.ca

حديث عبد الحليم خدام التلفزيوني الاخير اصاب النظام السوري بتسونامي سياسي مرعب, بدت عوارضه ظاهرة على الحكم السوري هلعا وجزعا وتخبطا. واذا كانت شهادة رجل خدم النظام طويلا وكان من أعمدته الرئيسية حتى وقت قريب مهمة للغاية في تجريم ذلك النظام ووضعه في قفص الاتهام المحكم, فان تلك الشهادة كذلك تدين الرجل ولا تعفيه من الجرائم والتجاوزات التي ارتكبت في حق الوطن والمواطن. وبالرغم من ان كثيرا من الحقائق التي وردت في شهادة عبد الحليم خدام من الممكن تصنيفها تحت خانة وإطار حق اريد به باطل, فإن حديث السياسي المحنك والمحامي البارع وتصريحاته لم تخلُ من التناقضات الواضحة. فبشار الاسد ذو خلق رفيع وادب جم كما يصفه خدام في بداية حديثه يتحول لاحقا في الحوار نفسه لإنسان فظ شديد القسوة في حديثه مع الرئيس الراحل رفيق الحريري. كما ان ادانة خدام للفساد الاقتصادي الكبير الذي ينخر في البلاد هو ادانة لخدام نفسه وقد احتل مركزا متقدما في نظام تأسس على كل اشكال الفساد الاقتصادي والاداري والسياسي, فالقصص التي ساقها ليدلل على مدى ما وصل اليه الفساد تمت في عهد الاسد الاب والذي يشير إليه خدام بكثير من الاحترام والتقدير. بكل الاحوال إذا صحت روايات الرجل – وليس هناك ما يدعو لغير ذلك- فللمرء ان يتخيل اعداد وارقام المليارات والتي كانت من نصيب رجالات الحكم سواء كانوا من العائلة المالكة او من اصحاب المراكز المتقدمة. نتمنى على السيد خدام ان يبلغنا عن راتبه وعن ثروته الحالية وكيف جناها والاسباب التي ادت الى صمته طوال هذه العقود والسنوات عن هذا الفساد الرهيب؟ 

يقول خدام "جئت إلى باريس ليتسنى لي كتابة مرحلة هامة من تاريخ سوريا  والمنطقة، في هذه المرحلة كنت أحد القياديين الأساسيين في التخطيط وفي التنفيذ في مجال سياستنا الخارجية  ورأيت أن من واجبي الوطني أن أؤرخ هذه المرحلة لتطلع الأجيال و الناس على هذه الحقائق والوقائع الصحيحة ، حيث استطعنا أن نحقق لسوريا مكانة مرموقة في الساحتين العربية والدولية ". أية مكانة مرموقة لسورية يا سيادة النائب والسياسة السورية كانت في عهد الاسد الاب تعتمد على البلطجة والابتزاز حين كانت فرق القتل والاغتيال الموزعة في السفارات السورية احد ادوات السياسة السورية لتصفية الخصوم كما حدث مع صلاح الدين البيطار وبنان الطنطاوي وغيرهم. ومن لا يذكر العزلة الخانقة والتي كثيرا ما عانت منها سورية كما حدث في عام 1990 حين تغيبت منفردة عن مؤتمر القمة العربي.  في محاولته لتلميع صورته يقول خدام "في إحدى زياراتي إلى فرنسا التقيت الرئيس جاك شيراك وتمنيت عليه أن يقدم أو أن يبعث لنا بمجموعة من الخبراء تدرس الإدارة في سوريا وكيفية تطويرها وتحديثها وجاءت بالفعل مجموعة من الخبراء ودرست وقدمت مقترحات ونامت هذه المقترحات في أدراج الحكومة ولم ينفذ منها شيئا". رغم المكانة المرموقة لسورية حسب خدام بفضل جهوده وأمثاله في التخطيط والقيادة فإن سورية الاسد تحتاج لخبراء فرنسيين لا للمساعدة في تطوير الصناعات الفضائية او الفلكية او البحوث العلمية ولكن في مجال الادارة وطرق تطويرها وتحديثها.  الطريف ان خدام لا يحتمل ما وصلت إليه الاحوال فيحتج على اوضاع الحريات العامة فيقول "والشعب السوري مصادرة حريته وممنوع عليه العمل السياسي، وتتسلط عليه أجهزة الأمن". لا ادري لماذا يصاب خدام بفقدان الذاكرة الكامل فيما يتعلق بمسألة الحريات والعمل السياسي في عهد الاسد الاب, وينسى انجازات عهده في تدمر وحماة وجسر الشغور وتل الزعتر ونهر البارد وغيرهم, وفي تصفيته للعمل النقابي والحزبي, فإين كان ضمير السيد النائب وقتها وفي سوريا قانون 49 والذي يحكم بالاعدام على كل منتسب لتنظيم الاخوان المسلمين؟

هناك الكثير مما يستحق التعليق والتحليل في حوار خدام غير ان اكثر ما استوقفني هو في الاسلوب والعقلية التي تحكم وتتحكم في الطبقة الحاكمة في سورية, ففي محاولته للتنصل من تجاوزات النظام الكثيرة والكبيرة في لبنان وتبرئة نفسه يقول خدام أنه  بعد اغتيال الرئيس الحريري أجتمع  مع بشار الاسد في 28 شباط 2005 متحدثا عن أخطاء وتجاوزات رستم غزالة قائلا للرئيس هذا المجرم "جيبو اقطع له رقبتو هذا هو الذي خلق هذا الوضع في لبنان". هكذا ببساطة يريد خدام المحامي ابتداء ان يقطع رأس مسؤول سوري في لبنان -بغض النظر عن جرائمه وتجاوزاته-  دونما ان يحقق معه او يحاكمه او يترك له فرصة الدفاع عن نفسه. وبالتالي يحق لنا ان نتساءل ونحن نعرف الجواب تماما عن الطريقة التي كان وما يزال هذا النظام يتعامل بها مع مواطنيه ومعارضيه, إذا كان رائد الاصلاح –كما يعتبر نفسه – يطالب الرئيس ببساطة بقطع رقبة مسوؤل كبير في النظام. وفي مقام أخر يتكلم القيادي والمفكر وزعيم الدبلوماسية السورية ردحا من الزمن عن قضية ابوعدس فيقول "أي منظمة أي شخص يستطيع أن يأتي بألف كيلو متفجرات لا أحمد أبو عدس ولا أحمد أبو حمص" فهل يليق ان يتحدث دبلوماسي ومفكر عن الاسماء بهذه الطريقة السوقية وعلى شاشات التلفزة وهل يحق للآخرين ان يعلقوا على اسم خدام بنفس الاسلوب؟ ان عقلية المافيا والاستعلاء على الناس تتضح وتنضح من حديث السيد خدام وهو منشق عن السلطة, فكيف إذا كان حاله عندما كان فيها وكيف هي احوال اولئك المتسلطون على رقاب الشعب السوري وعلى مقدراته؟

رد النظام السوري على عبد الحليم خدام -والذي اصدر القانون رقم (9) القاضي بتعديل مادة في الدستور السوري لتسمح بوراثة بشار مملكة ابيه وملكه – ابتدأ ببث جلسة مجلس الشعب والذي تبارى فيها النواب في شتم وتخوين والاساءة الشخصية وبالفاظ جارحة ونابية إلى احد أعمدة النظام لعقود طويلة. الامر المثير للسخرية المبكية هي في حديث النواب عن فساد خدام وابنائه وعن المطاعم التي يمتلكونها وعن دفن النفايات النووية في صحراء تدمر والتي تورط فيها ابناء الرجل. هذا الحديث يرتد على النظام السوري سهاما صائبة وحججا دامغة, فهو اولا يِؤكد شهادة خدام بضعف بشار الاسد وانفعاليته وعدم جديته في محاربة الفساد. فلماذا لم يتصدى بشار الاسد -والذي رفع شعار محاربة الفساد في بدايات عهده- لخدام على كل تلك التجاوزات الخطيرة؟ ولماذا لا يتم الحديث عن فساد مسؤول سوري وعن تجاوزاته وجرائمه الا حين يختلف معه النظام كما حدث لرفعت الاسد ويحدث الان مع خدام. مداخلات النواب السوريين ممتعة من جهة كونها كوميديا سوداء, فرئيس مجلس الشعب السوري محمود الابرش تحدث عن مئات الالاف من الاتصالات التي وصلت من المواطنين لمجلس الشعب السوري والتي تطالب بمحاكمة خدام وتخوينه. هكذا مئات الالاف من الاتصالات خلال ساعات محدودة يا سيادة الابرش!! اما النائب حبش فقد اتهم خدام بأنه هو من أغلق المنتديات الديمقراطية في سورية والقى بعدد من أعضائها في السجن مثل رياض سيف وعارف دليلة. إذا برأي حبش ان خدام هو كان من يحكم سورية وهو الذي يقرر سياستها ومساحة الحرية فيها, فما الذي كان ومازال يفعله بشار الاسد. واذا هذا هو الحال فلماذا لا يُطلق سراح النواب والذين سجنهم الديكتاتور خدام؟!!

شهادة خدام خطيرة ومهمة وهي تدين الرجل والنظام الذي خدمه والحكم الذي إنشق عليه, وتظهر وبجلاء ان سورية كانت وما تزال تُحكم من قبل عصابات من المافيا والذين يجب ان يحاكموا على الجرائم والتجاوزات التي ارتكبوها بحق المواطن والوطن. إذا كان تحرك ضمير خدام واستيقاظه واقعا – وما ذلك على الله بعزيز- فعليه ان يعتذر للشعب السوري وان يرد جميع الاموال والثروات التي تحصل عليها هو وابناؤه وان يتكلم بوضوح عن الاسرار الخطيرة والتي اشار إليها ممتنعا عن الخوض فيها ألان لا أن يقايض عليها بمزيد من المال او الطمع بدور مستقبلي. اما النظام السوري فقد تكون هذه فرصته الاخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه بالاستجابة لمبادرة المعارض رياض الترك الشهيرة والواقعية والا فإن الثمن الذي سيدفعه سيكون باهظا خصوصا وأن اوراقا امريكية كثيرة برأيي قد تظهر في اوقات مدروسة لتزيد من عزلة النظام وإذلاله. الملاحظة الاخيرة والمهمة برأيي والتي يمكن استخلاصها من حديث خدام ولقائه توقيتا ومكانا ووسيلة بأن ثمة رسالة امريكية-غربية ضمنية لبشار تقول له أنه من الممكن ان يبقى في الحكم ولكن عليه ان يضحي برجالات الامن من حوله وان ينصاع وبشكل كامل للرغبات والاوامر الامريكية. من الارجح ان النظام السوري يشعر بندم على شديد على عدم سماحه لخدام بالانتحار كما فعل مع الزعبي وكنعان.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com