|
لا يزال هناك من يحلم بالدولة الشيوعية
د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية مع سقوط دولة المرجعية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات وتراجع الماوية إلى مجرد ضريح وكتيب وأعلام حمراء في مسقط رأسها الصيني قبل ذلك بعدة سنوات، ساد الاعتقاد بأن الحركات المسلحة الشيوعية في بلدان العالم الثالث سوف تنهار مثلما انهارت أنظمة شرق أوروبا الماركسية تباعا. غير أن الذي حدث هو أن بعضا من تلك الحركات لا تزال ناشطة وتقاوم سلطات بلادها مستخدمة حرب التحرير الشعبية والكثير من الوعود الوردية والشعارات التي أكل الدهر عليها وشرب، وكأن شيئا لم يكن. والأغرب من هذا أن ساحات عمل هذه الحركات أصبحت محصورة في آسيا، حيث العملية الديمقراطية وترسيخ الحريات والحقوق قطعت شوطا بعيدا يسمح بتحول شيوعييها إلى النضال السياسي السلمي. وإذا كان احد أكثر الأمثلة الحية الراهنة على العنف الثوري المسلح بقيادة الماويين هو ما يجري منذ أواسط التسعينات في نيبال (مع مفارقة غريبة هي أن بكين هي التي تدعم حكومة كاتمندو ماديا وعسكريا في حربها ضد المتمردين الماويين) فان المثال الآخر هو ما يجري في الفلبين التي تواجه أعمال عنف متزايدة من قبل الذراع العسكري للحزب الشيوعي الفلبيني وما يسمى بجيش الشعب الجديد. فشيوعيو الفلبين الذين احتفلوا في 26 من ديسمبر بالذكرى الثامنة والثلاثين لانطلاقة حربهم الشعبية، باتوا باعتراف السلطات يشكلون التهديد الأول للدولة والنظام، فيما يأتي التهديد الذي يمثله الانفصاليون المسلمون في جنوب البلاد في المقام الثاني. والسبب أن هؤلاء ينشطون في 69 مقاطعة من مقاطعات الفلبين التسع والسبعين، ولا يزالون يمتلكون كادرا مسلحا يترواح عدده ما بين 8 – 12 ألف مقاتل، إضافة إلى تكتيكاتهم العسكرية التي تسببت في مواجهات دموية حصدت حتى الآن أرواح 40 ألف إنسان. وفي الأشهر القليلة الماضية لوحظت زيادة في وتيرة عمليات جيش الشعب الجديد، بحيث لم يعد يمر يوم دون سقوط ضحايا من قوات الشرطة والجيش قتلا وجرحا بالألغام والتفجيرات. ويعزو بعض المراقبين السبب إلى الضعف الذي تشكو منه إدارة الرئيسة الحالية "غلوريا ماكاباغال أرويو" التي تصارع من اجل البقاء في السلطة في مواجهة اتهامات لها بالتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية ومطالبات بضرورة مساءلتها وطرح الثقة بها في البرلمان. وهذا قد يكون صحيحا، لا سيما وأن هناك سوابق تشير إلى أن المتمردين الشيوعيين يزيدون من ضغوطهم القتالية على الحكومة كلما شعروا أن الأخيرة في مأزق، وذلك من اجل استغلال الوضع في تحقيق بعض المكاسب. من هذه السوابق، إنهم من بعد فترة من الهدؤ والاسترخاء في أواخر التسعينات، عادوا إلى التصعيد العسكري في عام 2000 منتهزين انعكاسات الأزمة النقدية الآسيوية على الدولة وتراجع شعبية الرئيس السابق جوزيف ايسترادا بسبب خبرته السياسية المحدودة وروابطه المشبوهة بشخصيات وجماعات فاسدة. غير أن البعض الآخر من متابعي الشئون الفلبينية يعتقد أن التصعيد الشيوعي الحالي هو احد افرازات توقف جهود السلام التي دشنت في العام الماضي برعاية نرويجية،على غرار مساعي اوسلو لإيجاد تسوية سلمية في سريلانكا بين الحكومة والمتمردين التاميل. والمعروف أن تلك الجهود وصلت إلى طريق مسدود بعدما رفضت مانيلا طلبا من المفاوضين الشيوعيين للتدخل لدى واشنطون وحليفاتها الغربيات من اجل رفع اسم جيش الشعب الجديد من القوائم الأمريكية والأوروبية الخاصة بالمنظمات الإرهابية. ومهما يكن السبب، فان حرب الشيوعيين ضد الحكومة الفلبينية وجيشها لم يعد له مبرر منذ سقوط نظام فرديناند ماركوس الديكتاتوري وعودة الديمقراطية. صحيح أن ديمقراطية الفلبين ليست نموذجية وأحوال البلاد ليست مثالية، بل متخلفة بأشواط عن جاراتها الناهضات إلى الحد الذي توصف معه الفلبين برجل جنوب شرق آسيا المريض، إلا أن الصحيح أيضا أن اللجؤ إلى العنف وحرب العصابات وما ينجم عنها من قتل للأرواح وتدمير للبنى التحتية وتعطيل للسياحة وتأخير لمشاريع التنمية ليس هو الحل، خاصة وانه من الصعب بل المحال أن يقبل الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي بقيام نظام شيوعي ماوي الأجندة في هذا الجزء من العالم، ناهيك عن رفض السواد الأعظم من الشعب الفلبيني الذي ذاق حلاوة الحرية والديمقراطية من بعد حقبة طويلة نسبيا من القمع الرسمي. يضاف إلى ذلك أن المتمردين فقدوا المصداقية في أنظار الفلبينيين، وجلهم من الكاثوليك الملتزمين، لأسباب عديدة كان آخرها قرار الحزب الشيوعي الفلبيني بالسماح لأثنين من مقاتليه المثليين بالزواج، بل وإضافة مادة بهذا الشأن في دستور الحزب، وذلك في أول واقعة من نوعها في تاريخ الحركات الثورية المسلحة. وأول من يعرف هذه الحقائق هم المتمردون بجناحيهم السياسي المتجسد في الجبهة الوطنية الديمقراطية، والعسكري ممثلا في جيش الشعب الجديد. إذ لولا إدراكهم لصعوبة تحقيق هدف المعلن بإقامة نظام شيوعي لما دخلوا ابتداء في مفاوضات مع مانيلا. وعليه يمكن وصف الحرب الدائرة بالعبثية التي لا طائل من ورائها، والتي لا يساعد على استمرارها سوى مقاتلون إما غسلت أدمغتهم بالشعارات البراقة وتربوا في أحضان أيديولوجية ماوية لا تعرف سوى الدم سبيلا لتحقيق الغايات. ولعل ما يؤكد ذلك أن ظاهرة العنف وصلت إلى داخل اطر جيش الشعب الجديد، بدليل قيام الأخير في أواخر الثمانينات بحملات تطهير في صفوفه للتخلص ممن وصفوا بالجواسيس والخونة وغير الملتزمين. في هذه الحملة التي تذكرنا بثورة ماو الثقافية في الصين وحملات التطهير التي قادها بول بوت في كمبوديا، حصدت أرواح ألفين من المقاتلين والأنصار باعتراف من تمكن من الهرب والانضمام إلى صفوف قوات الحكومة. ويعتقد أن هذه، إضافة إلى حملات الجيش والشرطة المضادة، هي التي تسببت في انخفاض أعداد المتمردين من 26 ألف مقاتل في عز تألقهم وبروزهم في الثمانينات إلى نحو 8 آلاف مقاتل في الوقت الراهن. كم حري بشيوعيي الفلبين، وأيضا شيوعيي نيبال، أن يتعلموا من رفاقهم الماركسيين في الهند الذين انخرطوا منذ استقلال الأخيرة في مؤسسات البلاد الديمقراطية وناضلوا سلميا في سبيل تحقيق أجنداتهم، فحصدوا حكم ولايات بأكملها وبرعوا في نيل التخويل الشعبي انتخابات وراء انتخابات، بل كانت لهم إسهامات وإصلاحات في المجالات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والصحية لا تزال ماثلة في أذهان شعوب ولايات مثل كيرلا (ثانية كبرى الولايات الهندية لجهة أعداد المسلمين) التي تدين بالكثير في ما وصل إليه أبناؤها من تقدم علمي وتنمية وتنوير لحقبة حكم الحزب الشيوعي الهندي في السبعينات والثمانينات.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |