من زمن موغل في الذاكرة والقدم، ومنذ أن وعينا، وفتحنّا عيوننا الصغيرة في فضاءات هذا الوطن الساحر الجميل، وخلال كل تلك الرحلة الطويلة من العذاب، والدوران في معمعات القهر، والحرمان، والفقر والتعتير، وعندما كنا نعبر من مرحلة إلى أخرى من الهزيمة، إلى النكسة، إلى انكسارات الأحلام الكبرى وتشتتها، إلى الخيبات المريرة القاتلة كانت تدوي في أسماعنا دائما نفس الأسماء، ونتابع يوميا نفس مشاهد الورع والتقوى، والإيمان. لكن، وفجأة، اكتشفنا بأننا كنا من السذج، والبُلَه، والمضحوك عليهم، والمغفلين. وأن كل ما حُقنا به من كلام وأقاويل، وما سمعناه ورأيناه، وعايشناه خلال كل تلك السنين كان محض سراب، وخلّب، ووهم كبير.
وكم كنا نساق زرافاً، وقطعاناً ونحن صغار غضيضو العود، وهمّنا اليتيم من كل هذا اللغط هو الحلوى، والألعاب، والأحلام، واللهو البريء، للجلوس في حضرة هذا المسؤول الأسطوري المحاط بهالة من القداسة، والأبهة والجند والأساطير، أو لمتابعة أحد أساطين الثورة الاشتراكيين المؤبدين المخلدين، ليقوم بجلدنا، وبدون رحمة، لساعات طوال في عز الحر والقيظ الهجير، أو في قر الشتاء، وبرده الشديد، عن الوحدة، والحرية، والاشتراكية، والنضال، والبعث العظيم، ويأخذنا إلى واحات من الأمل، وجنان من الوعود، وغدران من السلسبيل، ويسقينا الوهم، ويطعمنا الكلام الجميل، ويعيدنا بعد ذلك كله خاويي الوفاض ، وباديي الأنقاض، عطشى محطمين وجائعين. ومن ثم لنعلم بعد دهر ثقيل بئيس، بأنه ليس سوى مجرد لص ومافيوزي نهم كبير، لا يشبع من دماء المساكين، ويرتدي عشرات الأقنعة، وقفازات من حرير.
وكم تم، وبوحي ملهم من هؤلاء الثوريين، اقتطاع مبالغ من تعويضنا العائلي الشحيح، ورواتبنا الضئيلة أصلاً، والتي كان من المفترض ان يشتري آباؤنا بها خبزاً، وملحا، وحليبا، دعما للثورة، والنضال الخلبي، والمجهود الحربي، لتذهب إلى حسابات سرية في المصارف الإمبريالية حلم الثوار الوحيد، وتزيد في أعداد المليارديريين في وطن لم يعد ينتج ويصدر سوى البؤساء والفقراء المعترين، وتتكدس في طرقاته كل أنواع الزبالات، والنفايات، وقصص الفساد والفاسدين. وبعد أن استلمونا بالخطب خدّجاً، ورضّعاً، في المهد "نغاغي" ونطير، واشبعونا أدلجة وتنظير، لفظونا شيّبا وكهولا عاجزين، خائرين، فقد علمنا مؤخرا فقط بأنهم من الخونة، والعملاء المتآمرين.
وحين كنا نتحلق سامرين، في ليالي الشتاء الكئيبة، حول المتعة الوحيدة المتاحة في ذلك الزمن البائد الموحش الكئيب، نتابع ممثلين حقيقيين، لا زائفين، من نجوم الكوميديا السورين، كان، وبلا "إحم ولا دستور"، أو أي اعتذار من جمهور المتابعين، يتم قطع ذلك المسلسل ليقدم لنا أحد السادة الملهمين الهائجين، أو واحد من أوابد الديبلوماسية ومرتكزاتها الفاشلين ما اصطلح على تسميته بـ"العرض السياسي الشامل" عن مجمل الأوضاع، والتطورات في المنطقة، والذي تبين لاحقا أن لا قيمة تذكر لكل ذاك "العك"، والسفسطة، والتحليل، وليس فيه أية رؤية صائبة، نظرا لحالة التردي، والتفسخ، والتحلل الشامل التي نعيشها على كافة الصعد، وفي مختلف الميادين. وبرغم كل ما حصل ويحصل سيقوم نفس هذا الحصيف بـ"جولة" مباركة على المحافظات، قريبا، لإطلاع الجماهير المتعطشة للحقيقة، ولتقديم نفس العرض السياسي، بنفس الديكورات، والمؤئرات، والوضع القديم، وما عليكم سوى مراقبة نفس الشاشة المميزة.
لقد استأنس، في الحقيقة، كثير من السوريين بذاك الخروج السلمي والهادئ، لشيوخ الحرس القديم بما فيهم السيد خدام من مفاصل السلطة السورية وبذاك الشكل الحضاري، وعقب مؤتمر حزبي، وطويت صفحتهم السوداء إلى أبد الآبدين، وأن يؤسس ذلك لمشاهد خروج وانتقال سلمي وسلس للسلطات لأكثر من رأس مافيوزي، ولكن تأبى الشموليات في النهاية إلا أن تلفظ في النهاية ما في جوفها من خبث، ووسخ كثير، وعادت بنا لمشاهد الخروج السابقة لكل رمز سلطوي لا يترك الكرسي إلا مذموما، أومسحولا، أو مقتولا، أو مخفورا كوحش آدمي تم القبض عليه في قفص من حديد.
كنا نضع أسوأ الاحتمالات، ونرسم أكثر التصورات سوداوية وانغلاق، ونقدم أشد الافتراضات تطرفا في التشاؤم، لكن ما حدث في هذا السيرك والتهريج الأخير، لم يخطر في بال أصحاب أخصب الخيالات، حيث لم يكن من الوارد أبدا أن يمس أحد من هيبة رجال النظام المستألهين، أو أن يقال بأن أحدا من أولئك السادة المعصومين هومن الأشرار والفجار الخونة الآثمين. ولا يزال يتردد كثيرون بفعل عوامل سطوة القمع والإرهاب الأمني المستديم، أن يفكر وحتى اللحظة، أو أن يتقبل هذه الحقائق التي ظهرت أمامه في هذا الفصل المدهش. فما تابعه الجميع في "الانتفاضة" البرلمانية لرجال الديمقراطية السورية المحدثين، عبر الفضائية الأشهر في التاريخ في التعتيم، والمداراة على الفساد والمفسدين، وتخليها بسرعة خيالية عن ثوابتها الإعلامية في حماية، وتجميل رجال النظام المخلدين، كان غريبا، وجديدا وصاعقا بكل المقاييس، لعموم المشاهدين، فقد أماط هؤلاء اللثام عن قدرة عالية، وجرأة مدهشة في فضح الفساد، والمفسدين، وتعريته في جلسات بث مباشر لأول مرة في التاريخ، فرجال النظام المدللين، الأثيرين، قد ضلوا، وخرجوا عن الصراط المستقيم، وأصبحوا بين طرفة عين وانتباهتها، أبالسة، وعملاء، وخونة، شياطين.
سامحكم الله أيها الرفاق على تلك الخديعة الكبرى، وعلى كل تلك السنوات المديدة من التمويه، والخفة والتمثيل، ولكن لا يسعنا، وفي نفس الوقت، إلا أن نرفع القبعة احتراما لكم جميعا، على تلك القدرة التمثيلية العالية، والمقدرة المسرحية الخارقة، والموهبة السينمائية الاستثنائية الرائعة في أداء أدوار الثوار، ونواب الشعب المؤتمنين، والمناضلين، وحماة الحمى ورجال الدولة النادرين، والمسؤولين المستألهين، وتغلبتم بذلك، وتفوقتم على نجوم هوليود المعروفين، وفناني مصر المشهورين، وحتى على ممثلي، وممثلات شركة "الشام" الدولية للانتاج الفني والتلفزيوني، بكل مافيها كوادر، وطواقم مميزين.
ونلقاكم قريبا، بعون الله، في سهرة تلفزيونية أخرى من انتاج بلاد "الشام" عن مآثر، وبطولات المافيوزيين.