|
دعوة لتشييع الحزب الشيوعي العراقي علي آل شفاف
لعل من أهم العوامل التي دفعت بـ "كارل ماركس" لأن يأتي بنظريته (السياسية), هي محاولة التغلب على كثرة الإضطرابات والإضرابات العمالية التي شغلت الأوربيين في بداية الثورة الصناعية. حيث ذكر ـ مخاطبا مواطنيه ـ في بداية محاضرته المسماة "(مختصر) في القيمة والسعر والربح, مقدمة في النظرية الرأسمالية " والتي ضَمَّنها بعد سنتين في كتابه المعروف "رأس المال" في الجزء الأول منه: "يسود القارة في هذه الأيام موجة من الإضرابات وغضب عام من أجل رفع الأجور . . .", لذلك جاءت طروحاته متناغمة مع الحاجة لحل مشاكل الطبقة الأكثر تأثرا بهذا الوضع في بيئته الأوربية وعصره, الذين يحملان خصوصيات بينها وبين خصوصيات عصرنا ومجتمعنا بون شاسع. لا تشكل الطبقة العاملة في مجتمعات العالم الثالث الفلاحية, ومنها العراق, الطبقة الرئيسية في فترات الأربعينات والخمسينات والستينات وحتى السبعينات, وهي الفترات التي انتشرت فيها الشيوعية في العراق. لكن "الببغاوية" التي طبعت أفكار رواد الشيوعية في العراق والمعاصرين منهم أيضا بالإضافة إلى مشاعر الانبهار بالإنجازات التي قامت بها الثورة البلشفية في روسيا والتي كونت أكبر دولة في العالم ـ مساحة ـ وكذلك الإعجاب بالشعارات الجذابة التي ملأت خيال البائسين والكادحين, كل هذا وغيره جعل شيوعيينا يبتلعون هذه الأفكار ـ ابتلاعا ـ دون هضمها أو استيعابها. الأمر الذي لم يفعله شيوعيوا الصين بقيادة "ماو تسي تونغ" ـ مثلا. فقد أدى فهم "الماويين" واستيعابهم لخصوصية الطرح الأوربي للشيوعية بشقيه الألماني والروسي الذي لا ينطبق تماما على الوضع الصيني, إلى أن يطوعوا هذا الطرح بما يتناسب مع خصوصيات مجتمعهم الفلاحي. فيما عجز (شيوعيونا) العراقيون كما هو شأن رفاقهم في أغلب دول العالم الثالث عن قولبة الفكر الشيوعي الأوربي وتطويعه ليتناسب مع مجتمعهم كما فعل "ماو". إن الذي فتح المجال لانتشار الفكر الشيوعي في بلدنا ـ في تلك الأيام ـ هو الفراغ الفكري وانتشار الأمية والجهل والتخلف. دخل الفكر الشيوعي العراق ليجد أدمغة خام لم يشغلها ـ بعد ـ فكر أو عقيدة سياسية, كما هو شأن دول العالم الثالث, فاستوطن في كثير من هذه الأدمغة الخام كأول طرح أو فكر يستحل ذلك الفراغ. لكن ما كان تقدميا نسبة إلى (لا شئ) ليس ـ بالضرورة ـ أن يكون كذلك نسبة إلى الأفكار الأخرى. وليس غريبا أن ما يسمى بالفكر التقدمي في مرحلة ما يكون فكرا رجعيا ومتخلفا, في مرحلة أخرى تجاوزته بكثير. هذا هو حال الفكر الشيوعي في أيامنا هذه. فقد أحست أغلب الحركات الشيوعية العالمية, بتخلف واقعها عن ركب العالم الرأسمالي المتقدم؛ وبفداحة الخسارة, ومرارة الهزيمة التي تلقتها على أيدي القوى الرأسمالية, التي جعلت الفكر (السياسي) الماركسي في نظر مفكري عصر "الإنترنت" و "العولمة", رمزا للرجعية الفكرية. كما كانت أفكار "أرسطو" و "إفلاطون" و"الفلسفة المدرسية", في نظر فلاسفة "عصر النهضة". كما أن الشيوعية أصبحت في (عصر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان) الذي (يدعو إليه) الرأسماليون, رمزا للشمولية وديكتاتورية الفرد وبيروقراطية وديكتاتورية القلة. وبعد أن أقرت ـ أكثر ـ الحركات الشيوعية العالمية بهذا الواقع الجديد, عمد الكثير من منظريها وقادتها إلى محاولة إعادة دراسة وتقييم شاملة, للأفكار والممارسات التي أدت بهم إلى هذه النتائج. فبدأت سلسلة من التراجعات تناغما وفهما للواقع الجديد. لأن الجحود لا يضر أحدا سواهم. وهكذا بدأنا نشهد حركات جديدة, تطلق على نفسها تسميات تنأى بها عن الشيوعية, وتتسم بشئ من الواقعية في فهم ما يدور حولها, كما أنها تتسم بالمرونة ـ إلى حد ما ـ لتغير شعاراتها و(مبادئها) حسب متطلبات الواقع. متماثلة بذلك مع أحزاب اليسار الأوربي الغربي والأمريكي التي سبقتها بعقود قبل سقوط جدار برلين, كالأحزاب الإشتراكية أو العمالية الألمانية والبريطانية والفرنسية والحركة اليسارية في أمريكا "هربرت ماركوزي". في خضم هذه التطورات السياسية الهائلة بقي (شيوعيونا) تائهين ضائعين, لم يحركوا ساكنا لإيجاد حركة تصحيحية تهضم الواقع الجديد, لتمثله فكرا وطرحا يتناغم معه ويسايره ويعاصره. ففضلوا الجمود والتصلب والجحود, ليتحولوا ـ بامتياز ـ إلى "رجعيين" يناظرون "هراطقة" القرون الوسطى. لذلك لم يجدوا لهم مكانا في العراق الجديد, فلفظهم المجتمع, لأنه امتلأ بأفكار وعقائد ونظريات مختلفة جديدة أو متجددة أو متناغمة ـ إلى حد ما ـ مع واقعه. ليس هذا بالجديد المحدث, بل كان كسل وجمود طالما اتسم به (شيوعيونا), دون ممارسة أي نوع من نقد الذات الفعال والمنتج, إذا ما استثنينا بعض الملاحظات غير الجدية التي يطرحها هذا الكاتب, أو ذاك الرفيق. فإذا كان هذا هو الحال في مجال الفكر والتنظير والإبداع, فما بالك بالممارسة والسلوك والنهج. إذا كان ـ هناك ـ من جائزة لتعطى للأكثر أخطاء وتعثرا وتخبطا في مسيرته, فإن من سيحصل عليها ـ وبتفوق ـ هو الحزب الشيوعي العراقي, الذي فاق جميع التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية العراقية فشلا, على الرغم من مسيرته الطويلة التي تجاوز بها الآخرين. فالمتابع لتأريخ هذا الحزب في العراق, يجده ينحدر من فشل إلى آخر, متخبطا, لا يعرف رأسه من قدميه. على عكس الكثير من الأحزاب الشيوعية والحركات اليسارية في باقي بقاع العالم, التي استطاعت ـ بفترة أقل بكثير ـ تسلم السلطة في بلدانها. خصوصا أيام مجد الشيوعية. فما بالك وقد أصبحت الحركة الشيوعية من ذكريات الماضي, والتفكير بترجمتها إلى نظام سياسي واجتماعي, يعد رجعية وتخلفا؟! ما إن أسكرت خمرة الثورة التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم حزبنا الشيوعي, حتى بات صريع كأسها, الذي كرعه حد الثمالة, وطفحه حد العي. وما إن أخذ منه الشراب مأخذه, وبلغ منه مبلغه, ولعبت بعطفيه الشمول, حتى عربد به جلاوزة البعث والحرس القومي ـ أسلاف الجيش الشعبي وفدائيي صدام ـ فأنفثوا ما أوغر من حقد صدورهم على أتباع ماركس ولينين, فدقوا منهم الأعناق, وفضخوا الرؤوس, وسحلوا الجثث في الشوارع. ليس لخلاف في الرأي أو العقيدة ـ لأن البعثيين لا يحملون فكرا أصيلا ـ وإنما صراع من أجل الكراسي. فجعلوا ثمالة كأسهم علقما. لم ينتظر شيوعيونا أن تغادر مرارة ما أذاقهم البعث حلاقمهم, حتى كرعوا من كأسه مرة أخرى. بعد أن عرف البعثيون كيف يغررون بهم, ليدخلوهم في لعبة أسموها "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية"!! فكانت خدعة أذاقتهم وبال أمرهم مرا زعافا, "وكان عاقبة (أمرهم) خسرا". فلم يذوقوا بعدها خمرا ولا عسلا ولا بصلا, حتى ساعة الناس هذه. حيث لم يتبق منهم, إلا أطلالا ودمنا, ليست بمخضرة ولا مصفرة. وهاهم اليوم يدوسون هذه الأطلال والدمن بحادلات البعث من جديد. وكأن قدرهم أن يسحقوا بأيد بعثية, تجعلهم وحزبهم أثرا بعد عين. هكذا يتنازل الشيوعيون العراقيون عن تأريخ حزبهم الطويل, ليستجدوا كرسيا أو اثنين, أو ما تجود به سجايا "علاوي", ليبيعوا تأريخهم بثمن بخس, وعوض تافه. لقد قبل الشيوعيون أن يتنازلوا عن ذلك التأريخ الطويل, وهانت عليهم أنفسهم, ليكونوا أتباعا لشخص متفرد, يرتكز تأريخه السياسي إلى من قتلهم وشردهم في المنافي, وفتك بهم, فيتعكزوا على اسمه, لتعشو أبصارهم مرة أخرى عن عدوهم الحقيقي, فيرموا بأنفسهم بين يديه . . لقمة هنيئة سائغة, أو فريسة سهلة لصياد أشر. سيأكل منها ما يأكل, ثم يرميها جثة هامدة متفسخة. فتعالوا لنشيع تلك الجثة المتفسخة, و(هنيئا مريئا) للبعث وجلاوزته.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |