|
آسيا تدشن العام الجديد بإطلاق تكتل جديد د. عبدالله المدني باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية كغيرها من مناطق العالم، تواجه منطقة شرق آسيا جملة من التحديات في العام الجديد، و إن بدت هذه التحديات اقل خطورة و حدة بالمقارنة مع ما تواجه مناطق أخرى. و إذا ما تجاوزنا ملفات مثل مكافحة الإرهاب و التطرف و التصدي للحركات المليشاوية الانفصالية و تقييد الانتشار النووي وتأمين إمدادات الطاقة بكميات كافية و أسعار معقولة للمحافظة على الزخم الاقتصادي، فان أول ما يستدعي الوقوف عنده هو التحدي المتمثل في خلق منطقة آسيوية للتجارة الحرة كخطوة أولى على الطريق نحو إقامة السوق الآسيوية المشتركة فالاتحاد الآسيوي على غرار الاتحاد الأوروبي. ومما لا شك فيه أن التعامل مع هذا التحدي يستدعي أولا التعامل الجدي مع قضايا تندرج جميعها في خانة بناء الثقة و إزالة بقايا الرواسب التاريخية بين مجموعة من الدول الآسيوية، ولا سيما ما بين اليابان من جهة و كل من الصين و كوريا الجنوبية. فهذه الرواسب التاريخية و ما ينشأ عنها من وقت إلى آخر من تصعيد متبادل بين أطرافها، يعيق الانطلاق السلس و يوتر الأجواء في المنطقة كلها و بشكل قد يطيح بما تم إنجازه من خطوات أو يعيق تواصله. إلى ذلك تبرز مشكلة الارتقاء بمستويات بعض الدول الأقل تقدما و انفتاحا داخل المجموعة الآسيوية، ولاسيما بورما (ميانمار) و أقطار الهند الصينية، و ذلك من اجل تضييق الهوة الفاصلة بينها و بين بقية أعضاء المجموعة. ولو أن الأمر كان مقتصرا على الفجوة الاقتصادية و التنموية لهان الأمر، و لكانت المساعدات الاقتصادية و الهبات و الاستثناءات كفيلة بحل المشكلة في مدى زمني معين، على نحو ما اتبعته الجماعة الأوروبية مع البرتغال واليونان مثلا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. لكن المعضلة الأساسية تكمن في وجود أنظمة سياسية متخشبة تقاوم الإصلاح و الانفتاح السياسي و تتفنن في الهروب مما تواجهها من استحقاقات عالمية. وأفضل مثال على هذا الشق هو بطبيعة الحال ما يقوم به النظام العسكري الديكتاتوري في بورما. ويمكن هنا أيضا أن نضيف الصراع الخفي على قيادة المنطقة. فالتعاون و التنسيق و التكامل بين دولها لا يلغي طموحات هذا الطرف أو ذاك في أن يكون له دور قيادي أو كلمة مسموعة توازي وزنها الإقليمي و الدولي و قدراتها المميزة، خاصة في ظل وجود أكثر من عملاق في شرق آسيا. على أنه من حظ المنطقة أنها تمتلك منظومة راسخة للتعاون كمنظومة آسيان التي تضم في عضويتها عشر دول جنوب شرق آسيوية، إلى جانب منتدي "آسيان + 3 " الذي يضم دول آسيان العشر و كل من اليابان و الصين و كوريا الجنوبية و يعقد قمة كل عام بالتزامن مع قمة آسيان السنوية. و هناك منظومة أخرى جديدة في طور التبلور هي "منتدى دول شرق آسيا" الذي يضم دول آسيان العشر إلى جانب الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند واستراليا ونيوزيلندة. وهذا يوفر أكثر من ساحة دائمة للحوار و النقاش و تقريب وجهات النظر بين الشركاء الآسيويين، و بما يمكنهم من تذويب الكثير من الخلافات و إيجاد الحلول الواقعية والهادئة للعديد من العقبات بروح المسئولية الجماعية التي اشتهروا بها. أن "منتدى دول شرق آسيا" الجديد الذي انبثق عن اجتماع قمة لزعماء الدول الستة عشر في العاصمة الماليزية في منتصف ديسمبر الماضي، هو في واقع الأمر مؤشر قوي و دليل عملي على إصرار الآسيويين على مواجهة تحديات القرن بالمزيد من الحوار و التعاون الهادف إلى المزيد من التكامل و الترابط المفضي في نهاية المطاف إلى قيام الإتحاد الآسيوي، أو الفكرة التي بشر بها رئيس الحكومة الماليزية السابق مهاتير محمد قبل عقد و نصف. فدخول قوى شمال شرق آسيا الكبرى الثلاث في التجمع يكشف عن وجود رغبة جماعية في تعزيز عملية بناء الثقة و الاستقرار في المنطقة على قاعدة منهجية، كما يوحي بوجود رؤية لدى أقطار جنوب شرق آسيا مفادها أن إدماج طوكيو و بكين في المخططات الجماعية الخاصة بالمنطقة هو احد أفضل الوسائل لتخفيف المنافسة بينهما و بالتالي عدم الاضطرار يوما إلى الاصطفاف مع احداهما ضد الأخرى. و قبول عضوية الهند يعني توسعة حدود و مفهوم مصطلح "شرق آسيا" بغية إدماج العملاق الجنوب آسيوي و ربطه بالعملاق الصيني لتستفيد دول المنطقة بهما ومنهما امنيا واقتصاديا وتجاريا و علميا. وإلحاق استراليا و نيوزيلندة الأوروبيتين ميراثا و تراثا بالتجمع معناه تجاوز الآسيويين للخصوصيات العرقية و الثقافية و استعداداهما لمنح المنطقة وجها جديدا يتناغم مع تحولات العولمة، فضلا عن انه مؤشر على تطور نوعي في مواقف اندونيسيا و ماليزيا. فماليزيا في عهد زعيمها المتقاعد مهاتير محمد كانت ضد فكرة دمج هذين البلدين في أية مشاريع وحدوية آسيوية، ليس بسبب تراثهما الأوروبي فقط و إنما أيضا بسبب دورهما في الاستراتيجيات الغربية. أما اندونيسيا فتقدمت الصفوف في معارضة الفكرة على خلفية ما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، حينما أعطت كانبيرا لنفسها الحق في التدخل في دول الجوار الآسيوي لضرب الإرهاب عبر ضربات عسكرية استباقية. أما تجاهل الولايات المتحدة التي لا تزال تحظى بدور مهم في المنطقة عبر اتفاقيات شراكة استراتيجية مع عدد من دولها، فانه لا يحمل أية رسالة معادية لواشنطون و مصالحها في آسيا، أو فكا للارتباط التقليدي الطويل معها، بقدر ما يشير إلى قدرة الآسيويين على بلورة أفكار و رؤى ومشاريع استراتيجية خاصة بمنطقهم باستقلالية، كما كتب أحد المراقبين. ولئن كان التجمع الشرق آسيوي الجديد سيواجه مشكلة كيفية المواءمة و التنسيق بين ما يصدر عنه من قرارات مع ما يصدر عن المنظومتين السابقتين له زمنيا و المختلفتين عنه قليلا لجهة الأعضاء، فان المشكلة الأخرى التي سوف تطرق بابه هي كيفية التعامل مع رغبة موسكو في الانضمام إليه. فعلى حين قد يرى بعض الأعضاء أن منح العضوية للاتحاد الروسي سيضفي مزيدا من القوة والأهمية للتجمع أو يحقق توازنا مطلوبا للحد من أية هيمنة صينية على التجمع – وهو نفس ما قيل في أسباب ضم الهند و استراليا- أو يساهم في الحد من مشكلة نقص الطاقة في شرق آسيا، فان آخرين قد يعارضون من منطلقات اقتصادية (اختلاف طبيعة و ظروف البنية الاقتصادية للاتحاد الروسي) أو من منطلقات أمنية (وجود نزاعات تاريخية بين موسكو و طوكيو، و دور روسيا في تمكين بعض الأقطار من امتلاك السلاح النووي المهدد للاستقرار في المنطقة) أو من منطلقات تجنب إثارة الحليف الأمريكي الذي لئن صمت عن ضم الصين باعتبارها قوة ذات مصالح و روابط تقليدية في المنطقة ولا خلاف على هويتها الآسيوية، فانه لن يستحسن ضم روسيا الحالمة باستعادة دور و نفوذ عالمي زال مع زوال الاتحاد السوفياتي.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |