أظهر انشقاق، واستدارة السيد عبد الحليم خدام، النائب السابق لرئيس الجمهورية، والعضو القيادي البعثي البارز، حقائق دامغة وساطعة، لا يمكن للمرء أن يشيح بنظره عنها، أو تلافيها إلا إذا كان فاقدا لنظره، وحواسه، وليس هناك من أية إمكانية لاستعادتها. فلقد جرت العادات النضالية، والبطولات الأمنية، خلال المرحلة الطويلة الماضية، أن تتم مطاردة تلك النخب الوطنية، والأصوات الحرة، وأصحاب الأقلام التي تصدت لعورات الفساد، وكان قلبهم فعلا على البلاد والعباد والذين لا يزال قسم منهم يقبع في الزنازين حتى الآن. وحاولت تلك الأصوات الخيرة جاهدة أن تشير لمخاطرالإنفلات الإفسادي على أمن الدولة العليا، والوطن بشكل عام، وما يمكن أن يستجره من ويلات، وفضائح، وتداعيات كالتي نعيشها في هذه الأيام، لا يعلم أعتى الاستراتيجيين أين ستستقر، وعلى أية حال. وهي طبعا، شوهت، وتشوه صورة سوريا في كل مكان من العالم، بما لم تفعله، بالتأكيد، تلك اللازمة المعهودة التي حفظت عن ظهر قلب، حين كانت توجه التهمة لأي من أولئك الشرفاء، وهي "نشر الأخبار الكاذبة"، و"توهين عزيمة الأمة"، التي راح ضحيتها الكثيرون أمام المحاكم سيئة السيط، التي كان الأولى بها توجيه هذه التهم الجاهزة للفاسدين والمفسدين، الذين وضعوا الوطن برمته، بما فيه من وطنيين وفاسدين، على حد سواء، على كف عفريت، وفوهة البركان.
لقد أظهرت الدروس، والعِبَر، والأيام، والتطورات الفضائحية الأخيرة، أن معظم، تلك الأصوات الحرة، إن لم تكن كلها، لم تكن خائنة أبدا، ونوازعها شريرة، أومتعاملة، كما كان يشاع من بعض الدوائر "المخدوعة" التي فبركت الاتهامات. بل تبين، في الحقيقة، أنها كانت عونا، وظهيرا، للوطن، وعنصر حماية قوي للنظام، أيضا، أولا وأخيرا، فيما لو تم الإصغاء لها جيدا، ولم تعامل بذاك الشكل البدائي والمتخلف المهين، في محاولتها الجادة للكشف عن المخاطر الجدية التي تكتنف نشاطات الفساد، والإفساد والتي لا حدود يمكن التنبؤ بمداها، فيما لو كشرت عن الأنياب. واستطلعت تلك الأصوات، بحسها المرهف السليم، ما يستجلبه النهم المافيوزي من أضرار، وتهديد حقيقي رأينا مجرد رأس جبل الجليد منه في الحلقة الفضائية الفضائحية الأولى من مسلسل التداعي الكبير والانهيار. هذا المسلسل الذي بدأ صاعقا، ومؤلما، ومدويا، وسيحدث، لاحقا، جروحا أبلغ، وأكثر إيلاما، إن لم تنفك بسرعة عرى التحالف الوثيقة مع القوى المافيوزية، ولم يكن هناك مسعى حثيثا لاستئصال شرورها، حيث لا وطن للمافيات، ولا انتماء حقيقي لها، ولا هوية وطنية تعتز بها، وتتمسك بها سوى كشوف الحسابات، وعناوين البنوك، وأسهم الشركات، وسندات تمليك القصور، والعقارات هنا وهناك، وما ستكسبه، وتضعه في "غلتها" آخر النهار. والمعيار الحقيقي لها بالانتماء، والالتصاق بهذا الجزء، أو تلك الرقعة الجغرافية، هو فقط بمقدار ما يدره عليها من عملات صعبة، ودولارات، فمفهوم الوطن ، و المواطنة، والانتساب، هو، حتما، مختلف لدى هؤلاء.
لقد كان هناك، في السابق، الكثير من الإجراءات، والممارسات التي كان هدفها الوحيد هو التضييق على الشرفاء، ولجم جنوحهم، وكبح فضولهم نحو كشف المستورات، وتبيان الأخطار، وتقديمها للعيان. لا بل لقد عمدت أجهزة، وماكينات، وأدوات بعينها، في حملات محمومة، على تجميل، وحماية الفاسدين تحت شتى الأشكال والدعوات، ومنع الاقتراب منهم، وتصويرهم في وسائل الإعلام بلوحات عصماء، وإسباغ الصفات القومية، والوطنية، والشريفة عليهم، وإضفاء نوع من الهالات، والأبهة، والعصمة، والقداسة عليهم، نظرا للأداور الوطنية، و"المهمات الجسام والعظام" التى آلوا على أنفسهم حملها "حماية للوطن" في المراحل التاريخية المتتابعة الشهيرة. واستهدفت تلك الإجراءات إسكات كل من يحاول النيل منهم، إما تهديدا بقطع الأرزاق، أو تسريحا، وتعسفا، أو التغييب برحلة سياحية أمنية تحت الأرض، لايعرف أحد متى يعود منها أولئك المتعوسين "طويلي اللسان"، ونعتهم بأقذع الأوصاف، وليس أقلها العمالة، والتعامل مع الخارج، والسفارات، وخيانة الأوطان. وقد مهّد ذلك لبروز طبقة مستفشرة من الفاسدين محمية قانونا، لا تشبع، ولا ترتوي، وتمارس نشاطاتها علنا، وعلى عينيك يا تاجر، وعلى قارعة الطرقات، أهلكت الحرث والضرع على السواء، وكان من نتيجتها هذا التردي العام، الذي لا يسر أحد على الإطلاق.
وهذه، بالطيع، ليس محاولة لتأثيم، وتجريم طبقات اجتماعية أخرى بنت ثرواتها على أساس من العمل الشريف والجاد، وساهمت إلى حد ما في رفد الإقتصاد الوطني بالكثير من المستلزمات الضرورية للتنمية، وعملية البناء. ويجب أن يكون هناك حد فاصل، وواضح بين من جنى ثروة من نشاط تجاري شريف، وخلاّق، وبين من كوّم ما لديه من النهب، والفساد، والصفقات، والمال السحت الحرام. ولن ننسى، أبدا، ما كان للبورجوازية الوطنية، في يوم ما، من دور إيجابي في دعم النهضة الإقتصادية، في أكثر من بلد من بلدان العام، لا بل كان حمل لواء النهضة الإقتصادية الناجحة في أكثر من بلد من بلدان العالم المزدهرة، منوط بهذه الطبقة بالذات، بما جلبته من خير للصالح العام، ولها الفضل الأول والأخير، تقريبا، في ذاك.
فهل يبعث هذا الدرس القاسي والمؤلم، على التفكير مليا، ومن ثم جديا، في اتباع سياسة أمنية جديدة مع شراذم النهب، والمافيات التي لا يهمها سوى التكسب والإسترزاق، وحين تهدد مصالحها، وتخسر مكاسبها، وتكف يدها، فقد لا يمكن التنبؤ بعنف وفجائية، واتجاه الإستدارات، والتحولات، لا سيما وأننا على أبواب حملة جديدة ضد الفساد كما "تروج" وسائل الإعلام هذه الأيام، يتم من خلالها فتح الباب على مصراعيه لشرفاء الوطن، ونخبه الواعية، وأقلامه الصادقة للإشارة إلى مكامن، وبواطن الفساد وممارسيه بالشكل الحقيقي والجدي الأوسع، لا التهريجي الأحادي الضيق، الذي شهدناه في مجلس المارسيدسات، والذي أُزعج- بضم الهمزة- مؤخرا من إغفاءة مزمنة، واستفاق على دوي الانفجارات المتتابعة التي أحدثتها مقابلة العربية مع "الرفيق" عبد الحليم خدام؟
سنتدخل مرة واحدة فيما لا يعنينا، وندس أنوفنا فيه، ومن منظور وطني بحت كوننا مواطنون يجب أن نمارس هذا الدور الهام، حبا بسوريا وشعبها قاطبة من الباب للمحراب، وليعذرنا المعنيون الأكارم، ونقول لقد آن الأوان، في الاستراتيجية الأمنية الجديدة، لملاحقة الفاسدين ومنح الشرفاء، وأصحاب الأصوات الحرة، إجازة تعويضية، وراحة مجزية، وإعادة اعتبار بعد هذا الماراثون الوطني الأمني الطويل من الاستعداء، والتخوين، والمطاردات التي استمرت قرابة العقود الأربعة، كانت عواقبها وخيمة، وفي الدرجة الأولى، على أهل النظام، بالذات، وعلى نفسها جنت براقش "الأمن". ولا يضير أبدا، بعد ذاك، إفساح المجال للشرفاء بالكلام بصوت عال، والإصغاء لهم، ولو لمرة واحدة بشكل آدمي، عصري، وإنساني، بدل تلك النغمة المملة، والعادة المقيتة القديمة التي درجت في التخاطب معهم بالكلبشات، واللكمات، والفلقات، وإلاّ، فقد يكون هناك المزيد من المفاجآت، و"الخدامات".