ديمقراطية مكبلة وليست كسيحة

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

من أكبر الأسئلة التي يطرحها العراقيون اليوم لماذا ذهبنا للانتخاب ممثلينا مادامت الحكومة ستكون توافقية؟ وهل حقا سنقرأ سورة الفاتحة على الديمقراطية فيما لو لم تكن الحكومة على أساس الاستحقاق الانتخابي؟ وماذا يطبخ لنا السياسيون وأمريكا والعرب الذين مازالوا يتدخلون بشؤوننا الداخلية؟ ومنهم من يسأل بمرارة ألم نسمعهم يلعنون المحاصصة صباح مساء؟ فلم ينادون بحكومة التوافق الذي لا نعرف عنه شيء سوى أنه محاصصة بعنوان ثاني؟ وأسئلة أخرى بذات المعنى تثير نقمة الجمهور وتوفر الأدوات لمزايد أو رافض للأمر الواقع. من جانب آخر إن العراق يمر بظروف ذات خصوصية لا يمكن القفز عليها بسهولة كونها هي الأرضية الواقعية التي يجب أن تتشكل عليها الحكومة، فما هي هذه الظروف؟ وما هي الضوابط الموضوعية التي يجب الالتزام بها عند تشكيل الحكومة الجديدة؟

إن الإجابات على هذه الأسئلة يمكن استنباطها من حقيقة التهديدات والتحديات التي يوجهها العراقي هذه الأيام، فهي من حيث الأساس تتمثل بعدة جوانب متداخلة بشكل عضوي بحيث لا يمكن فصل أيا منها عن الجوانب الأخرى بأي حال من الأحوال، وهي استقرار حقيقي في الجانب الأمني أولا، وثانيا أو بشكل موازي عودة عجلة الإنتاج للدوران، وثالثا مشاركة الجميع بإدارة البلد بشكل يجعل من الجميع مطمئن أن ليس هناك من يستهدفه أو يريد النيل منه، وذلك في عملية سياسية طويلة ومعقدة فيها الكثير من المطبات والفخاخ، بعضها يمكن أن تكون قاتلة للجميع، فكل عامل من هذه العوامل يجب أن نجد له حلا مبدعا يجعل من العملية تسير بسلاسة وأن لا يعيق حركتها شيء أو يعيدها لنقطة البدء.

في الحقيقة لا توجد وصفات ثابتة في الأدبيات السياسية الكلاسيكية سوى بعض العموميات التي تبدو غير مجدية في كثير من الأحيان، لذا يجب أن نستوعب حالتنا ونحدد خصوصياتها.

لكون موضوع البحث ينصب على معضلات تشكيل الحكومة الجديدة، كأن تكون حكومة استحقاق انتخابي أم حكومة وحدة وطنية توافقية، علينا الاستفادة من هذه المقاربة المعروفة في الوضع السياسي الدولي، ربما لا نختلف على وجود ممثل واحد لكل من دولة البحرين والهند أو الصين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكل منهم يمتلك صوتا واحدا ولا يقل عن الآخر بشيء بالرغم من أن سكان دولة البحرين لا يزيدون على سكان حي من أحياء بومباي الصغيرة جدا، لكن بالتأكيد أن للدول العظمى أو الكبرى ذات النفوذ الأقوى في العالم مقعد دائم في مجلس الأمن، وذلك لأهمية الجانب الأمني على استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية في جميع بلدان العالم، لكن أيضا نجد بعض التفاوت بين هذه الدول العظمى عن بعضها البعض في القوة والنفوذ في هذا المجلس، إذ ليس من المعقول أن تتساوى فرنسا مع الولايات المتحدة في جميع النواحي، لذا فإن ثقل الدولة في مجلس الأمن يبقى له اعتبار مبني على أساس منطقي، أما الدول الأخرى قد تجلس يوما ما في مجلس الأمن وفق جدول زمني يتناوبون عليه حسب مناطقهم الجغرافية، لكن يبقى صوت هذه الدول ضعيفا ولا يعلو على صوت تلك الدول العظمى. هذه المقاربة لا تختلف كثيرا عن الوضع العراقي في تشكيل حكومة التوافق الوطني، وهي بذات الوقت تعكس ما عكسته نتائج الانتخابات بشكل أو بآخر، فحكومة التوافق الوطني لا تعني التجاوز على الواقع الموضوعي وأن تعطي الصغير ما تعطي للكبير في كل شيء، لكن ما هو مهم هو أن الجميع يشعر بالاطمئنان للأطراف الأخرى، وهذه تعتبر خطوة أساسية في نزع السلاح الحقيقي مستقبلا فيما لو استمر الاستقطاب على ما هو عليه اليوم.

في الحقيقة يمكن الاستمرار بهذه الصيغ التوافقية حتى ينشأ وضع جديد خارج عن إرادة السياسيين وهو ما سنأتي عليه بشيء من التفصيل في هذا البحث، وهو في الحقيقة ليس تخليا عن ما أسميناه بالاستحقاق الانتخابي ولكن تجاوبا مع الحالة وما تمليه من تحديات جدية تهدد العراق بالكامل وما أفرزته نتائج الانتخابات من استقطاب لمرجعية الطائفة أو القومية، وهذا لا يعني بأي حال إننا نقر بهذا الاستقطاب على أنه حالة أصيلة في الواقع العراق، لأن ما يدبوا وكأنه استقطاب طائفي، ما هو إلا تمترس وراء مرجعيات متخلفة ولكن متاحة كالطائفة أو القومية وذلك لغياب المرجعية الحقيقية للإنسان في الوقت الحالي والمتمثلة بدولة قانون قوية، وهذا مازال غير موجود، بل هو الهدف النهائي الذي نريد الوصول إليه، وإن هذا التوافق يجب أن يستمر في هذه المرحلة التي لا يستطيع احد أن يحدد إلى متى ستطول، ولكن ما نستطيع قوله، إنها سوف تنتهي موضوعيا في حال استقرار الأمن وعودة عجلة الإنتاج للدوران بسرعة وتسارع عاليين، آن ذاك يكون العراق موضوعيا جاهز للدخول في مرحلة الاستقرار السياسي الحقيقي المكفول بعلاقات إنتاج غير العلاقات السائدة حاليا وكذا مرجعيات غير المرجعيات الحالية، وهذا ما سنأتي عليه أيضا في هذا البحث.

أتفق إلى حد بعيد مع ما جاء في مقال الأستاذ عبد الجبار الشبوط رئيس تحرير صحيفة الصباح بعنوان "العملية السياسية بين الديمقراطية (و/او) التوافقية" بتاريخ [13-01-2006]، حيث يقول فيها " التوافق خيار إجرائي آخر مقابل ومغاير، يستهدف تقاسم السلطة على أساس تفاهمات سياسية وليس تداولها على أساس ما تقرره الانتخابات من استحقاقات" ويقول أيضا " في هذه المرحلة سيجرى الدمج بين مبدأ التوافق القديم، ومبدأ الاستحقاق الانتخابي الجديد، في إطار تشكيلة حكومية سوف تسمى في الأدب السياسي عندنا باسم(حكومة وحدة وطنية)"، وبقدر ما نتفق معه بشكل عام، نختلف معه أيضا على بعض التفاصيل التي قد تؤدي إلى بلورة شكل التوافق في تشكيل الحكومة.

في الحقيقة إن هذه المرحلة هي الأهم والأخطر في صيرورة العراق الجديد، ذلك لأن العوامل الداخلية التي تتحكم بخلق واقع موضوعي جديد هي المسؤولة عن دخول العراق لمرحلة الاستقرار السياسي، وهي بذات الوقت الهدف النهائي من العملية السياسية الجارية حاليا، والتي قد تستمر لفترة أكثر من أربع سنوات وليس كما حددها الأستاذ الشبوط، لأن العوامل الموضوعية من حيث الأساس تأتي من شكل المرجعيات الجديدة للإنسان العراقي بعد أن تدور فعلا عجلة الإنتاج بالزخم الكافي الذي يمنعها عن التوقف والاستمرار بالدوران، لكن بلا شك سيبقى تسارع الدوران مرهون بالحالة الأمنية من حيث الأساس، وكذا الظروف الموضوعية الأخرى ستبقى تقف في صف طويل وفي حالة انتظار لتحسن الوضع الأمني والاستقرار السياسي، ويفترض أنها تنتهي بواقع جديد يستند إلى وجود مرجعيات جديدة متحضرة كالقانون والقضاء ومنظمات المجتمع المدني القوية والفاعلة، لكن علينا الأخذ بالحسبان أن هذه الأمور تحكمها علاقات إنتاج قد لا تكون متطورة بالشكل الكبير الذي يلغي المرجعيات الحالية ولكن بالتأكيد ستضعف من دورها، أضف إلى ذلك مدى نضوج القوى السياسية وقدرتها على التكيف مع الوضع الجديد الذي يكون قد فتح لها أفاقا جديدة لا تحلم بها في الوقت الحالي بسبب المرجعيات المتخلفة المتمثلة بالطائفة وما تمخض عنها هذه الأيام من استقطاب يوهم الناظر على أنه الاستقطاب الحقيقي في البلد، بالرغم من أنه المحرك الأساسي هذه الأيام، لكننا نختلف مع الأستاذ الشبوط فقط في أصالة الحالة، فهو ينظر لها على أنها حالة استقطاب طائفي حقيقية وربما أزلية في الواقع العراقي، في حين نحن ننظر لها على أنها حالة طارئة كناتج عرضي سببه الفراغ السياسي والبنى الاقتصادية المهدمة كواقع تركه النظام الدكتاتوري المنهار، ولوجود تهديدات تحت رايات طائفية وعرقية، نجد الجميع قد تمترسوا وراء الطائفة أو القومية، وسوف نرى إن كل هذه الأشكال من الاستقطاب تبدأ بالتلاشي في حال زوال الخطر أو التهديدات، وذلك وفق عملية خارجة عن إرادة الإنسان تفرضها الظروف الموضوعية مستقبلا، بالضبط كما فرضتها كواقع غير أصيل هذه الأيام، وعلى الرغم من أن الإنتهاء من هذه الحالة في غير صالح التيار الإسلامي بطرفيه الشيعي والسني في العراق، لكنه مع ذلك يجد نفسه مجبرا على العمل بكل إخلاص على إنهائها وإنهاء العنف والتهديد الذي صنع هذا الاستقطاب. بمعنى إننا نختلف مع الأستاذ الشبوط في تشخيصه للحالة وصيرورة الحالة الجديدة كوليد موضوعي وشرعي، وبقاء حالة الاستقطاب كما هي عليه الآن أمر غير واقعي ولا ينتج سوى الخيبة لمن يعولون عليه ويضعون خططهم المستقبلية على أساس منه.

في الحقيقة إن مخاوف الأستاذ الشبوط تكمن في أن يصبح عرف المحاصصة بتقاسم المناصب الرئاسية متأصلا في العراق بالرغم من عدم إقرار الدستور بذلك، لأن العرف ربما سيكون بقوة القانون، وإن لم يشر الشبوط إلى النظام البريطاني في مقالته، كونها بلدا ليس فيه دستور، ولكن ما هو معمول به هناك عبارة عن جملة من القيم والأعراق كسوابق قانونية تعمل بمثابة الدستور الدائم لهذه الدولة والتي تعتبر أحد أعرق الديمقراطيات والدول العظمي في وقنا الحالي، إذا مخاوف الأستاذ الشبوط موضوعية إلى حد بعيد، لكن فقط في حال استمرار الوضع أو الاستقطاب الطائفي على ما هو عليه الآن، أضف إلى ذلك إن الوضع العراقي الآن مختلف تماما بوجود الدستور، فهو يلغي أي عرف مهما كانت قوته، وليس كما هو الحال في بريطانيا، حيث لا توجد نصوص دستورية تقابل الأعراف.

من هنا تأتي ضرورة تمسك السياسيين بالبنود الدستورية في بناء حالة التوافق أو تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي تضمن التوافق، لأن هذه النصوص الدستورية ببساطة موجودة وهي ضمانة أكيدة بالعودة لها وقتما يستتب الوضع السياسي في العراق وتتبدل المرجعيات من شكلها الحالي إلى مرجعيات القانون وسلطة الدولة القوية والمستقرة سياسيا.

كما أسلفنا، إن ما أنتج حالة الخوف من الآخر وبالتالي التمترس وراء الطائفة أو القومية، هو بالتحديد وجود التمرد في مناطق معينة من العراق قرأه الآخرون على أنه محاولة لاستعادة السلطة من خلال البعث الذي يختبئ خلف أي بندقية ترفع في العراق بحجة المقاومة، مع محاولات إعادة تشكيل الجيش والقوات المسلحة القديمة بذات الأيادي التي حفرت المقابر الجماعية في مناطق العراق المختلفة، مع بعد إقليمي داعم إلى أبعد الحدود لهذا المشروع، كل هذا يثير الرعب في النفوس، وهو ما دفع الجموع في المناطق الأخرى للتمترس وراء الطائفة والقومية.

ما نراه على الضفة الأخرى من النهر هو حالة لا تختلف كثيرا، إذ أن العراقي هناك يجد نفسه يقف أمام مليشيات مدججة بالسلاح حتى آذانها، ولاءها ليس للعراق وعيونها ترنوا إلى ما وراء الحدود، يقف خلفهم الغالبية من أبناء العراق، وربما يريدون النيل منهم بإقصائهم عما كانوا يستأثرون به، وبالرغم من أن نوايا السياسيين مختلفة عن نوايا البشر الباقين في صناعة الأهداف النهائية، لكن أصبح التمترس وراء الطائفة قدرا لا يمكن نكرانه بالنسبة لهم حتى لو كان عودة البعث والعياذ بالله.

في الحقيقة، كل ما تقدم ما كان ليحدث ويصبح حقيقة لو لم تكن المرجعيات الحقيقية للإنسان غائبة كنتيجة لانهيار مؤسسات الدولة الأمنية وغياب القانون.

من هنا أيضا يأتي أهم شرط يجب أن يتوفر في التشكيلة الجديدة للحكومة، هو عدم إعطاء أي فرصة لبرامج إعادة تأهيل البعث وأجهزته الأمنية القديمة، وكذا نزع جميع الأسلحة التي تفرض سلطانا بشكل موازي لسلطان الدولة والقانون، وأن لا يكون الملف الأمني بأيد ترسم لصياغة أهدافها على حساب استقرار الوضع السياسي في العراق.

لكن يبقى ما يسمى بالاستحقاق الانتخابي ماثلا أمامنا كالصنم الذي يأبى التهديم، أو المعضلة التي تبدوا مستحيلة الحل، وهي أن كيف سيتخلى من فاز بالانتخابات عن هدفه النهائي؟ فإذا استأثر طرف منهم بالسلطة فإنه يعني تمزيق الوحدة الوطنية، أما إذا تقاسموا السلطة فإنه يعني استمرار حالة الشلل حتى تصبح أزلية، أو أن تنتهي بلبنان جديد، وفي أحسن الأحوال سودان آخر بدساتير مختلفة ما لم يتقسم العراق نهائيا.

للخروج من هذا المأزق، ليس أمام القوى التي تريد استحقاقها الانتخابي والأخرى التي تريد تقاسم السلطة أن تعي حقيقة واحدة باختيار مرشحيها للحكومة، وهي أن يكونوا مقبولين من جميع الأطراف، وأن يكون هناك ""مجلس أمن"" على غرار مجلس الأمن، تلك الهيئة الدولية التي أشرنا لها بالمقاربة في بداية المقال، هذه الهيئة يجب أن تكون برلمانية وهي التي تملك الوصاية الكاملة على من يدير الملف الأمني، وللمزيد من الاطمئنان يجب أن يتم اختيار الذين يديرون الملف الأمني على أساس أنهم لا يحملون برنامجا سياسيا يعتبره العراقيين تهديدا لهم في الصميم كمشروع إعادة تأهيل البعث أو برنامج تأهيل الجيش والقوات المسلحة القديمة أو مشروع فدرالية الجنوب أو وجود المليشيات المدججة بالسلاح، لأن الإمساك بالملف الأمني من قبل أي جهة تثير المخاوف من كلا الطرفين يعني المزيد من الخوف والتمترس وراء الطائفة والقومية وبالتالي المزيد من التردي والشلل للحكومة القادمة، وقد لا ينتهي التردي ويبقى حالة أزلية كما أسلفنا.

ربما نجد في الحالة اللبنانية ما يؤكد هذه المخاوف، كوجود مليشيات سواء كانت تحمل السلاح حاليا أو إنها رمته في قبو البيت على أن تعود له وقتما تشاء، أو وقتما تجد هناك تهديدا حقيقيا لكيانها الطائفي أو العرقي، هذه الحالة الغير أصيلة أخذت طريقها للدستور اللبناني ولم يعد التراجع عنها أمرا سهلا، بل هو المستحيل الذي قد يعود بلبنان إلى الوراء، أو بالأحرى يجر لبنان إلى حرب جديدة قد تدوم عقود حتى يصار إلى طائف ثاني يخرج لبنان من مستنقع الطائفية الغارقة فيه حتى آذانها اليوم.

الوضع في العراق مختلف تماما، فقد استوعب العراقيون التجربة اللبنانية، وخرجوا بدستور يفصل الدين عن الدولة ويضع بنودا تضمن استقلالية الجيش والقوات المسلحة، ويفرض الوصاية الدستورية عليها مشترطا ولاءها للوطن فقط، ويضمن تداولية السلطة ولا يعتمد أي محاصصة طائفية تاركين الحل للفترة الانتقالية، وها نحن نواجه هذه الحالة، إي الفترة الانتقالية، لذا يجب أن يعاد تأسيس كل شيء بشكل لا يثر فزع أي من الأطراف، وبغير هذا لا يمكن إصابة الهدف.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com