عندما يتحول البغض إلى حب ..!
هادي فريد التكريتي
hadifarid@maktoob.com
\" من كان يفكر قبل 20 أو 10 أو 5 سنوات أن شيلي ستنتخب امرأة رئيسة لها \" بهذه العبارة صرحت مبتهجة السيدة طبيبة الأطفال ميشيل باشيليت ، المعارضة النشطة للجنرال بينو شيت ، الذي سجنها وأمها ، وقتل أباها تحت التعذيب ، في أحد السجون ، إبان انقلابه الفاشي ، على حكومة الرئيس ، المنتخب ديموقراطيا في العام 1973 إليندي سفادور. ، والتي شغلت منصبي وزارة الصحة ووزارة الدفاع على التوالي في العام 2000 ـ 2005 في الوزارة التي شكلها تحالف يسار الوسط .
الظروف السياسية التي عاشتها شيلي منذ إنقلاب بينو شيت وحتى العام 1990 ، تكاد تكون نفس الظروف التي عاشها العراق ، تحت الحكم الفاشي البعثي ، من حيث أسلوب الحكم وطبيعته ، والنهج الذي انتهجه ، مع فارق واحد ، وهو أن بينو شيت كان وجها بارزا ، صريحا ، وواضحا في عمالته لأمريكا ، منذ اللحظة الأولى لانقلابه ،بينما النظام البعثي في العراق منذ انقلاب العام 1963 كان عميلا لها ، بكافة رموزه ، إلا أنه كان يتمسح بمفاهيم تقدمية وقومية زائفة ، لنتيجة واحدة ، اضطهاد الشعب ، وسيادة المفاهيم الفاشية والحكم الدكتاتوري ، التي أودت بتدهور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لحياة الشعبين الرازحين تحت حكم متشابه في المحتوى والنتائج.
لم تكن مسيرة الشعب الشيلي ومقاومته لحكومة بينو شيت بالإمر الهين أو السهل ، على الرغم من التضامن العالمي ، ووقوف حركة التحرر العالمية ، والحركة الديموقراطية في أمريكا اللاتينية ، إلى جانب الشعب الشيلي ، حيث تحققت له انتصارات جزئية في العام 1990 ، بتشكيل \" حكومة وفاق \" من قوى سياسية وطنية مختلفة التوجهات ، وبمشاركة من أتباع حكومة الجنرال بينوشيت ، وبذا تحققت بداية حقبة زمنية مواتية لانفراج سياسي ، استغلتها وأدارتها بذكاء سياسي ، القوى السياسية الشيلية على مختلف توجهاتها ، بعد حكم فاشي دكتاتوري دام 17 عاما ، فرضت هذه الحكومة ( حكومة الوفاق ) ضمانات وتعهدات بعدم المساس بحقوق وامتيازات أركان النظام السابق ، وعدم مساءلتهم عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الشيلي ، وعلى رأسهم الجنرال بينوشيت الذي بقي متمتعا بكل امتيازاته وحقوقه وأملاكه التي حصل عليها أثناء حكمه للبلاد ، وبحصانة دبلوماسية تبعده عن كل مساءلة قانونية لجرائمه التي ارتكبها بحق الشعب .. رغم كل هذا فالشعب الشيلي ، وكل منظماته وأحزابه السياسية ، بما فيها اليسار ، لم يصب بخدر أو ينسى أن حقوق الشعب واجبة الأداء ، والجرائم المرتكبة من قبل أركان الدكتاتورية ، بحق الشعب والوطن ، لا بد وأن يقدم لها وعنها الحساب في يوم من الأيام ، وهذا ما هو حاصل اليوم ..!
إن مواصلة النضال ، دون كلل ، وتعبئة الجماهير للوصول إلى حكم ديموقراطي حقيقي ، يحقق لها السيادة الوطنية في اتخاذ القرار ، والتمتع بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين كافة أفراد الشعب ، وإطلاق الحريات العامة ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، والظفر بحياة أفضل ، يمر فقط عبر حق تنظيم هذه الجماهير ، والإدراك الواعي لمصالحها الحقيقة ، الكامن في وحدتها وتمسكها بما تطرح من مطالب مشروعة بظرفها الراهن ، وتعبئة قوى الشعب بكل فئاتها بهذا الإتجاه ، والتصعيد في مطالبها اليومية والعامة ، هو مايحقق للشعب الظفر بالحرية والرفاه ، وخصوصا الطبقات الكادحة والفقيرة التي أنهكها الحكم الفاشي ، وهذا بعض ما تحقق ، أثناء ، ومن ، خلال حكم \" حكومة الوفاق \" الذي دام 12 عاما . خاض الشعب الشيلي خلال هذه الفترة التي تميزت بحريات ديموقراطية نسبية ، أربع انتخابات رئاسية ، في النهاية ، تحقق فيها الفوز لتحالف قوى اليسار حكم ، تعتلي قيادته امرأة ، وقد تضمن برنامجها الانتخابي وعودا بإصلاحات للوضع الاجتماعي عامة وللنساء خاصة ، بجعل نصف وظائف الدولة للنساء ، بما فيها تشكيلة مجلس الوزراء القادمة ، وتحقيق المساواة الاجتماعية المتوازية للشعب الشيلي ، وحل المشاكل الحدودية مع جيرانها ، البيرو وبوليفيا ، التي تهددها وجيرانها الحرب ، فإرساء السلام الدائم مع هذه الدول ، خدمة لشعوبها ، ولشعوب المنطقة ، كما هو خدمة للسلام العالمي بين الشعوب ..ما تقدم كانت بعض فقرات من برنامجها الذي ألزمت به نفسها ، والحركة السياسية التي تمثلها ، فهل ستنجز ما وعدت ؟ وأمريكا ، ألا يضيق ذرعها بما تشاهده دائرا في محيط فنائها الخارجي ؟ وربما لم تعد قادرة أن ترى انهيارا ل\" إمبراطوريات موزها \" التي أقامتها واحدا بعد الآخر ، وليس بوسعها أن تحتمل انهيارها ، الواحد بعد الآخر أيضا ، ، وقيام المزيد من الأنظمة البديلة ذات النهج اليساري ، جيرانا لها في القارة اللاتينية . كيف ستنظر للتطور السياسي الحاصل في المنطقة ؟ فكوبا واحدة لازالت شوكة تدمي خاصرتها وتذكرها بالحكم الشيوعي ، فكيف بها إن تكونت مجموعة من ال \" كوبات \" المتماثلة نسبيا في الحكم ؟ وهل تتقبل إشاعة حكومات ديموقراطية تعيش وتتنفس وتنمو رغما عنها بالقرب منها ؟ هل دعاوى الديموقراطية لحكم الشعوب ، التي أطلقتها أمريكا دعاوى حقيقية ؟ وهل ستتعايش مع الحكم الجديد ، للنساء ، الذي يكتسح مواقع القيادة في القارة اللاتينية .؟(ثلاث نساء يحكمن في دول أمريكا اللاتينية ). أم سيغلب الطبع على التطبع ، وتعود حليمة لعادتها القديمة ؟ الأيام كفيلة بتمزيق كل الدعاوى الزائفة ، ولابد للحقيقة من ظهور ..
فوز السيدة ميشيل يعتبر نصرا للحركة السياسية الوطنية ، اليسارية والديموقراطية ، ليس في منطقة أمريكا اللاتينية لوحدها ، بل لكل حركة التحرر العالمية ، والعراق جزء من هذه الحركة ، وفوزها كامرأة برئاسة الدولة ، في مثل ظرفنا العراقي هذا ، تعبير واضح عن ضرورة انخراط النساء في النضال من أجل تغيير نظرة المجتمع وقوانين الدولة تجاه المرأة ، وتحفيز لهن للعمل بجد أكثر من أجل نيل كامل حقوقهن ، ولصنع عالم أفضل لأسرهن ، بتغيير الواقع القسري الذي تفرضه قوانين جائرة تقيد من حريتها وتحد من حقوقها . فسيرة ميشيل باشيليت ، تشابه الى حد كبير ظروف المرأة العراقية ، وما أحاق بها خلال الحكم الفاشي العنصري ، فالقتل والقمع والتشريد ومحاربة الحريات ، كانت القاسم المشترك ، ألا أن ما عندنا مختلف بعض الشيء في الشكل وليس المحتوى ، فعلى الرغم من سقوط النظام أمريكيا ، إلا أن الدستور الجديد يحمل بين مواده بقايا عصور التخلف تجاه المرأة ، وتسود الأفكار الدينية ـ الطائفية والـقومية ـ العنصرية ، على تشريع مواده ، التي تحد من تطور المجتمع ، باتجاه مجتمع مدني متطور ، تحكمه نظم وقوانين ديموقراطية وفق مفاهيم العصر وقيمه ..ومهما كان واقع الحكم العراقي في الظرف الراهن ، فلن يكون نهاية المطاف ، فالتجربة الشيلية تفتح أمام القوى السياسية ، ملف تجربة جديدة ، جدير بنا دراسته بعناية المتأني ، وخصوصا المرأة ، التي لحق ، ويلحق ، بها حيف وتمييز ، باعتبارها أكثر من نصف المجتمع ، وتحملت نتائج كل الكوارث التي ألحقها النظام الساقط بالمجتمع ، كما تتحمل اليوم ، أسوة بقوى المجتمع الأخرى ، نتائج قوى الإرهاب السلفي والقومي العنصري ، وما تلحقه هذه القوى في الوطن والشعب من خراب ودمار من الصعب توصيف نتائجه ، في ظل حكومة طائفية عاجزة عن تحقيق السلم والأمن للمواطن .. كل قوى الإرهاب ، قومية ـ عنصرية ، إسلامية ـ سلفية ، إسلامية ـ طائفية ، غير قادرة على تبني فحوى العبارة التي أطلقتها ، المرأة الرئيسة لشيلي عشية فوزها \" .. إن العنف الذي خرب ما أحبه دفعني لتكريس حياتي لقلب مجرى الأمور ، وتحويل البغض إلى حب ..\" ما تقدر عليه هي فقط المرأة العراقية ، ذات القلب الكبير التي ذاقت مرارات فقد أحبتها في الحروب العبثية ، في المقابر الجماعية ، في أنفالات الحقد والكراهية وغازات حلبجة ، وما تعايشه اليوم من تفخيخ وتفجير وذبح على الهوية لفلذات كبدها ، وما تقترفه ميليشيات أحزاب الحكومة الملثمين ، من اختطاف وقتل في الليل والنهار لأبناء شعبها..فهل عندنا من النسوة من يحول البغض إلى حب ، كما قالت المرأة باشيليت من شيلي ..؟!
العودة الى الصفحة الرئيسية