استثنى العفو الصادر مؤخرا بإطلاق سراح خمسة من سجناء ما عرف بربيع دمشق البروفيسور عارف دليلة، وبقي في زنزانته بانتظار "الفرج"، والإفراج. وتوحّد النظام السوري، بذلك مع معارضته الديمقراطية جداً، في لغز الألغاز في الموقف من الدكتور دليلة في واحدة من صدف الزمان العجيبة اتجاه أحد أقطاب الربيع الموءود بعدم إضفاء أي "اعتبار سياسي" عليه، ولم يشمله بالعفو الصادر عن مشاهير السجناء السياسيين في سوريا. وحين لفّت عريضة ما سمي بـ "الإعلان الديمقراطي"، وسميناه "تجنيا" بإعلان قندهار الذي يهلل له مروجوه على أنه فتح الزمان الوحيد، ودارت " سرا" على بعض من أولئك السجناء داخل السجن، مرت، "خلسة"، بجانب زنزانة شيخ السجناء السوريين البروفيسور دليلة، وغضت الطرف عن وجوده في السجن، متجاهلة إياه، تماما، كما فعل "فرمان الإعفاء"، وأكملت العريضة الديمقراطية "الوطنية"، فيما بعد سبيلها النضالي والوطني إلى رموزالمعارضة السورية في الخارج بكل أطيافهم من فلول المتمركسين، وشيوخ الأصوليين، وبقايا القومجيين الأبطال، لتتحفنا بإعلانها الوطني الفريد، والهام.
ولقد جاء هذا العفو، وبرغم كل ما يقال، على خلفية انعقاد المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب في دمشق، ودرءا لأي إحراج قد يسببه وجود هؤلاء في السجن، أكثر مما هو امتثال لحاجة ملحة لتحقيق نوع من الانفراج، وتنفيس الاحتقان داخليا، في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، بما يعزز من صمودها، ومقاومتها، فعلا، وليس خطابيا، وبلاغيا. لأنه من التناقض الفاقع أن يبقى هؤلاء السجناء رهن الاعتقال، في الوقت الذي سيدعو فيه المحامون العرب الأشاوس "حماة الحريات الإنسانية"، إلى ترديد، والتأكيد على لازمات الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان التي فقدت أي معنى، وبريق لها في ظل إمعان أنظمة الاستبداد في انتهاك أبسط المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وزج الأحرار في السجون، والمعتقلات وترك الفاسدين والمافيات أحرارا طلقاء، ينعمون بما كسبت أيديهم من خيرات الأوطان. ولقد أدت هذه الخطوة غير المكتملة، إلى إفراغ تلك البادرة من محتواها الإنساني والتسامحي الرمزي في تجاوز الماضي الأليم، بكل منغصاته، والتأسيس على حاضر جديد خال من كل عيوب، وانتكاسات، ونواقص المرحلة الآفلة. وقد قال البعض بأن ليس لهذه الخطوة أي بعد، أو مدلول سياسي، برغم أهميتها وتوقيتها الدقيق، وكأنما لسان حال "المصدر المسؤول" يقول أن السياسة لا تجتمع مطلقا مع الفعل الطيب الجميل والأخلاق، وأن لا تنازل أبدا، ولا امتثال نهائيا لأية رغبة شعبية ومهما كانت بسيطة، برغم حجم الاستحقاقات الكبيرة التي تتراكم يوما بعد آخر.
وشخصيا، أتفق، برغم الاحتفالية الطاغية ووهج الخطاب الملتهب، مع كل ما جاء في كلمة السيد سامح عاشور، رئيس اتحاد المحامين العرب، في كلمته التي أعادتنا لأجواء حقبة ناصر، العرّاب الروحي الأول للاستبداد الذي ساد، ولذاك الخطاب الحماسي الذي يأسر الألباب، ويلهب المشاعر، ولاسيما لجملة المبادئ العامة التي تتعلق بالمواقف الوطنية والشريفة الأصيلة من العدوان والاحتلال والاستعمار، ومع التركيز الأهم على الجانب الأبرز، وهو أن العبيد لا يدافعون، ولا يجيدون القتال، ولكي تكون الأوطان حرة وتنتصر على الأعداء، فيجب أن يكون أبناؤها أحرارا أولا. فـ "العبد لا يكر" كما ردد ذاك الجاهلي عنترة بن شداد منذ، خمسة عشر قرنا بالتمام والكمال. وحين يشير السيد عاشور لهذا، فهو حتما، ليس مشبوها، وليس متآمرا، ولن يشكك أحد بمواقفه المؤيدة لسورية قلبا وقالبا، ونحن، معه في هذا أيضا، جملة وتفصيلا. وحين يذكّر، ويدعو صراحة لإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ومن ضمنهم الدكتور عارف دليلة لأسباب إنسانية، ووطنية بالمقام الأول، فهو وبلا شك لأنه يحب سورية، وستكون هذه دعوة أخرى، وحتما ليست أخيرة، ومن جانب محايد، لإقفال هذا الملف الأسود نهائيا. فعارف دليلة ليس لصاً، ولا سارقاً، ولا قاتلاً، وخروجه من السجن لن يشكل أي انتهاك للقانون أو تهديدا للأمن، ولن يضعف الوطن، على الإطلاق بوجود هذا الكم الكبير من الفاسدين خارج السجن.
كم تمنى معظم السوريين أن تكون تلك الخطوة سياسية فعلا، وجوهرا، وذات دلائل وأبعاد إصلاحية جدية، تعقبها أخريات لا مجرد خبر آخر مزعج يوتّر الأعصاب، ويكظم الغيظ، ويولد الإحباط. خطوة تنبئ بعهد جديد من التسامح والانفتاح يشمل عموم السجناء، وبمختلف الأطياف، أم هل ستبقى البحبوحة والسعادة والانشراح، وكالعادة، حراما، و محظورة في بلاد الشام؟ وكم كانت العائلة الكريمة لسجين الرأي الكبير، وأبناؤه سيحفلون به، ويفرحون، ويصفقون لهكذا قرار، بعد التئام الشمل، وعودة رب الأسرة إلى أرض الديار، بعد أن مرت السنون وطال الغياب؟ ولكانت هذه الخطوة، لو حصلت، ستثلج، حتما، صدور جميع المحبين، والخائفين القلقين على سوريا من تبعات الإعصار، وليس السيد عاشور أولهم، أو آخرهم، على أية حال.
وسنرى عند ذاك إن كانت العريضة "الديمقراطية"، برموزها العرضحالجيين الأبرار، ستنفصل هذه المرة عن "رؤية" النظام، وستدلف على بيت البروفيسور دليلة، ليس للتوقيع، ولا سمح الله، ولكن لمجرد تهنئة، بعودة سالمة، وميمونة، للأهل والأحباب.