الانتخابات ...وتقرير البعثة الدولية لمراقبتها...!
هادي فريد التكريتي
hadifarid@maktoob.com
انتهت البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات العراقية ، من وضع تقريرها النهائي ، وتم نشره ، إلا أن الحديث عن الانتخابات ونتائجها ، لا زال محورا للنقاش والأخذ والرد ، ليس بين أصحاب القوائم فقط وإنما شمل الكثير من الكتاب والمراقبين ، عراقيين وعرب وأجانب . فالحديث عن حدث مهم في حياة العراقيين ، سيتولى إدارة شؤونهم ، لفترة أربع سنوات لاحقة ، جدير بالدراسة والتحليل وتسليط الأضواء عليه وعلى نتائجه ، ومن هذا المنطلق يجب التسليم بالحقائق التالية : ـ 1ـ أن الانتخابات ، قد جرت بإقدام شعبي منقطع النظير ، لم تشهد له مثيلا ، حتى الدول العريقة في الديموقراطية ، حيث بلغت نسبة المساهمين فيها ما يقارب 70% من عدد الناخبين ، متجاوزين كل التهديدات التي أطلقها الإرهابيون..
2 ـ العملية الانتخابية ، وبكل مارافقها ، من تزوير وانتهاكات ، وتدخلات من الحكومة ومن خارجها، لا يمكن إعادتها ، كلا أو بعضا منها .
3 ـ اعترفت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ، بوجود تزوير وانتهاكات ، ليس في داخل العراق فقط ، وإنما في الخارج أيضا ..
4 ـ اقرت البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات العراقية ، من خلال أعضاء فريق التقييم ، بوجود تزوير وانتهاكات مختلفة ألأشكال والصور ، وهذا ما أدى إلى \" ..إبطال نتائج عشرات الصناديق التي شهدت مخالفات جسيمة ..\"
إن تقييما منطقيا لهذا الحدث التاريخي والكبير في العراق ، يتطلب تقييما ونقدا لكافة جوانبه ، كما الإجراءات المتخذة من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ، وكذلك أساليب الحماية المتخذة من قبل الحكومة ، علما أن الحكومة وأجهزتها الأمنية ، بكل مؤسساتها ، كانت غير محايدة ، مما أدى إلى وقوع حوادث قتل وحرق وتجاوزات على القوائم المنافسة لقوائم الحكومة ، بشقيها الطائفي والقومي ـ العنصري ، وهذا ما ألقى بضلاله السلبية على مجمل سير العملية الانتخابية ونتائجها ، وكل إغفال لهذا الواقع وعدم النظر إليه باعتباره عاملا مؤثرا على سير العملية ، وشفافية الإجراءات المتخذة حيال القائمين به ، يصب في طمس حقيقة وقائع هذا الحدث ، وتزييف للنتائج المستخلصة منه ، وهذا ما وقع به البعض من كتابنا المثقفين ، المراقبين لهذا الحدث الكبير ، من مدخل دعواهم المتمثلة في : ـ أولا ـ أن العراق والعراقيين حديثو عهد بتجربة ديموقراطية تتنافس فيها أعداد كبيرة من القوائم الانتخابية .
ثانيا ـ أن التشكيك بنزاهة الانتخابات ، هو سلاح الفاشلين في تحقيق فوز لقوائمهم .
ثالثا ـ التزوير يحصل حتى في بعض الدول المتطور ديموقراطيا ، وما حصل لن يؤثر على النتائج النهائية ، لعدم اتساع رقعته، ومحدودية تأثيره..
مهما حاولنا تجاوز واقع الظروف التي جرت فيها الانتخابات ، والنتائج التي أفرزها هذا الواقع ، فالطعونات الكثيرة التي وجهتها القوى السياسية ، التي لم تحقق ما هو مأمول منها أن تحققه ، لا يمكن تجاهلها ، كما لا يمكن القفز على حقيقة اعترافات المفوضية العليا للإنتخابات ، حيث أقرت بالكثير من هذه الطعون ، وفي هذا الإطار أيضا لا يمكن تجاهل تقرير البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات العراقية ، حيث ورد فيه ما يؤيد المذهب الذي ذهبت إليه القوائم الطاعنة حيث يقول :ـ \"..لسوء الحظ لم يحافظ عدد من موظفي المفوضية الميدانيين على استقامتهم المهنية ...وإن عددا غير محدود من 220 ألف موظف اقتراع التابعين للمفوضية انخرط في ممارسات مشكوك فيها وغير قانونية \" ماذا يمكن أن تقول فقرة تتهم جهة ما أكثر من هذا ، وهل بالضرورة أن يحصل التزوير والممارسات غير القانونية من كل أطراف الهيئة أو من كل موظفيها ؟ يكفي العشرات منهم في مراكز مختلفة ، في عدة محافظات ، لأن يغيروا الواقع ويغلبوا قائمة ما على أخرى ، فكيف إذا كان العدد غير محدود من هؤلاء ؟ فهم كالوباء إذا استشرى ، فقليله مؤثر كما هو كثيره ، وليست فقط هذه هي الفقرة الوحيدة التي أشار إليها تقرير الهيئة المارة الذكر ، إنما أشار إلى عامل آخر ، أثر في الجو الإنتخابي وألقى بظلاله على المقترعين ، وهو عامل الإرهاب ، حيث وردت الفقرة التالية \" تمكنت هذه الكيانات ( الكيانات السياسية ) من تأليف لوائح من عدد من المرشحين وإجراء حملات انتخابية على الرغم من وجود أعمال عنف خطيرة ، من ضمنها اغتيال عدد من هؤلاء المرشحين ومؤيديهم ..\" ألا تكفي هذه الفقرة من توضيح ما كانت عليه أجواء الانتخابات ، في مناطق معينة تسيطر عليها مليشيات طائفية متعددة الولاءات ، وأجهزة أمن حكومية تأتمر بأمر القادة المسيسين ، بحيث يستحيل على الُمصِوت أن يملأ استمارته الانتخابية بسرية ويلقيها في الصندوق ، دون أن يحيط به مثل هؤلاء الموظفين الفاسدين ، وفي جو ُيقتل فيه المرشحون ومؤيدوهم ، وعلى الرغم من أن الفقرة لم توضح لنا من هم الضحايا ، ولأي القوائم ينتسبون إلا أننا نعرفهم ، ويعرفهم موظفو المفوضية العليا للإنتخابات ، كما يعرفهم الناخب ، الذي لم يجرأ أن يصوت خوفا من أن يدفع رأسه ثمنا لمجازفته ، فهل المطلوب أكثر من هذا في تقرير لهيئة دولية تخاطب قارءها بدبلوماسية ورهافة حس ، وهل بالضرورة أن تسمى من هي الجهات المستفيدة من مثل هذه الجرائم ، واللبيب من الإشارة يفهم ؟ وهي لجنة لإطفاء الحرائق وليس لإشعالها ؟ أم أن هذا لا يمكن أن يسمى تزويرا بعرف بعض كتابنا ، لأنه في عرفهم مجال مسموح به ، ولأننا شعب حديث عهد بمثل هذه الممارسات الديموقراطية ، التي لا يمكن لها أن تمر دون قتل أو حرق ، من أجل أن يصل إلى الحكم ، حاكم عن طريق البلطجة والقتل وحرق المقرات.!
هل كان من الأجدى على القائمة الضحية أن تسكت ، ولا تتقدم بشكوى تنصفها ، وتصرف النظر عن المطالبة بالتحقيق من منظمات دولية ؟ ولو لم يكن هذا ، هل كان للمفوضية العليا المستقلة ، أن تعترف بكل التجاوزات وحالات التزوير وإلغاء الصناديق في الداخل والخارج ؟ وهل كان يريد المنتقدون أن تبقى حالات التزوير عراقية ، وعدم نشر الغسيل القذر للمزورين ، حكام الغد ؟ وباللغة ذاتها تحدث تقرير البعثةالدولية لمراقبة الانتخابات عن الهيئة المستقلة للإنتخابات ، حيث ورد في الصفحة الخامسة من التقرير \" وأوجدت ( الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات ) نظاما للشكاوى ...سمح بإبطال نتائج عشرات الصناديق التي شهدت مخالفات جسيمة ...ونتيجة لهذا النظام تم إلغاء ما يقارب من نصف الأصوات التي قضى بإلغائها ، وتم إلغاء النصف الآخر بناء على الشكاوى المقدمة . غير انه توجد نواقص في إدارة العملية الانتخابية ، فالمخاوف الأمنية تسببت في اعتماد عدد غير ملائم من مراكز الاقتراع وتوزيع غير مثالي لهذه المراكز في بعض مناطق البلاد . وعانت بعض المراكز من نقص في أوراق الاقتراع ، كما كانت هناك بعض المشكلات في سجلات الناخبين . وحصلت عمليات تزوير وانتهاكات أخرى ...وربما لم يمكن رصد بعض الانتهاكات . لكن على رغم ذلك ، فإنه يتعذر تحديد مدى اتساع نطاق هذه الانتهاكات في ظل الظروف الحالية.\" على الرغم من أن الفقرات المجتزأة من التقرير لا تظهر الحقيقة كما هي ، وتحاول أن تخفف من مسؤولية الهيئة العليا الملقاة على عاتقها، والتقصير المتعمد من قبل بعض موظفيها وعدم نزاهتهم ، الذي أخذ أشكالا مختلفة ، ومنها عدم إيصال القوائم والصناديق إلى المراكز الانتخابية أو تغيير محلات التصويت إلى أماكن بعيدة ومن دون إعلام مسبق ، وحتى عدم وجود نقاط دلالة للمراكز الجديدة ، ليتسنى للناخب أن يتوجه إليها ، وهذا منتهى القصد من تزوير فاضح تفتقت عنه أذهان موظفين فاسدين ، ضالعين في التزوير بأشكال مختلفة ومتنوعة ، وهذا يعني أن التزوير كان عميقا ومؤثرا ، لصالح كيانات معينة ، مدعومة بقدرات حكومية وميليشيات حزبية ، ضد كيانات أخرى تفتقر لهذه القدرات ..وحسبما ورد في تقرير الهيئة الدولية لمراقبة الانتخابات ص4 ، اعتراف صريح بأضرار لحقت بقوائم كانت ضحية للمزورين \" الانتهاكات القانونية التي حدثت دفعت المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات في العراق إلى إلغاء الإقتراع في 227 صندوق إقتراع من أصل 30 ألف صندوق ، وقد أدى هذا الأمر إلى إبطال قسم كبير من الأصوات المزورة ، ولكنه أدى في الوقت نفسه إلى إبطال أصوات العديد من العراقيين الذين اقترعوا بشكل صحيح .من المؤسف جدا إلغاء نتائج صناديق الاقتراع من دون الدعوة إلى إعادة الانتخابات في المناطق المعينة ، في ظل نظام انتخابي يعتمد على التمثيل النسبي للقوائم ، حيث يختلف عدد الأصوات المطلوبة للفوز من محافظة إلى أخرى ومن مقعد إلى آخر \" لا أعتقد أن بعد هذه الفقرة هناك ما يمكن قوله من انتهاكات تؤثر على انتخاب المرشحين ، فربما إبطال محتويات بضعة صناديق تؤثر على فوز الكثير من المرشحين ، وفق ما أشارت إليه الفقرة السابقة ، وبالنتيجة يتساوى في العقوبة الجاني والضحية ..وعندما يعيب البعض من المثقفين والكتاب على القوائم التي طعنت بالانتخابات ،طلبها بالتحقيق الدولي ، هل كانوا يعتقدون أن المفوضية العليا للإنتخابات ستبادر وتعلن كل ما أعلنت عنه من حالات التزوير ؟ وهل تم ضبط كل ما هو حاصل ؟ أم أن التزوير كان كجبل من ثلج في محيط ، الظاهر منه لا يمثل إلا جزء من أجزاء متوارية في الأعماق . ... وهل كان للمفوضية أن تحدد نقاط الضعف التي احتوتها العملية الانتخابية ، حيث أشارت إليها البعثة الدولية في تقريرها ؟ إن ما كان على ، البعثة الدولية ، أن تفعله هو أن تقرر ضرورة حرمان المزورين من نتائج التزوير التي حصلوا عليها ، إلا أن هذا ما تجاهلته ، وما كان عليها أن تفعل...!
إن خلط الأوراق من قبل بعض كتاب ومثقفين ، بدعوة القوائم الخاسرة على تقبل النتائج بروح رياضية ، قبل التأكد من صحة اعتراضاتهم أو عدمها ، أمر تكتنفه عدم مصداقية المعالجة ، لنواقص وسلبيات عملية التصويت ، إنما النقد الصريح لكل جوانبها ، وإظهار حقيقة ما جرى ، هو الطريق الرادع مستقبلا ، لتكرار أساليب متدنية ومهينة ، للوصول إلى مراكز شريفة ، فالوقوف إلى جانب المزورين ، مهما كانت هوياتهم واتجاهاتهم ، بحجج مختلفة ، لن يخدم العملية الديموقراطية ، بل يعزز من التوجهات الطائفية والشوفينية السائدة في البلد ، والتي ستؤدي بنا ، حتما ، إلى فاشية دينية ـ طائفية أقسى وأكثر ظلامية مما عانيناه من النظام البعثي ، وبالمقابل ، ألم نوجه النقد لأساليب النظام البعثي في تزويره لإرادة الشعب التي أنتجت لنا ديكتاتورية وفاشية كلنا ذاق همجيتها ؟ فلم إذن نتستر على جرائم تقودنا لذات الطريق ..؟ الجريمة واحدة ونتيجتها الخيانة وعدم الأمانة ، سواء أكان التزوير يمثل مانسبته 1% أم 50% أو اكثر ، لا فرق في لغة الوطنية ، فالأمانة لا تتجزء والخيانة كذلك ، إذن كيف سيحكمنا غدا مزور ؟ وما صيغة القسم التي سيؤديها ؟ في نهاية المطاف ، اعترضت بعض الكيانات الكبيرة على نتيجة توزيع المقاعد التعويضية ، عندما خصصت المفوضية مقعدا واحدا لكل كيان من الكيانات الصغيرة ، التي لم يحالفها الحظ بلوغ نسبة الأصوات المقررة ، إلا أن سمك القرش ، القوائم الكبيرة ، لم يهدأ لها بال قبل أن تطحن بأسنانها المنشارية السمك الصغير ، فاعترضت ، وطالبت بهذه المقاعد لنفسها ، محاولة حرمان كيانات الأزيدية والكلدوآشورية والتركمانية ..وغيرها من تمثيل كياناتها .
الكيانات الكبيرة لم تأخذ بنظر الاعتبار ما صاحب العملية الانتخابية من تزوير، نتيجته الضرر ، الذي لحق بالكيانات الصغيرة ، آلت نتيجته مكاسب للكبار ، بحصولهم على أغلب المقاعد في المجلس النيابي الجديد ، كما أنها ـ القوائم الكبيرة ـ لم تعر اهتماما لقرارات اللجنة الدولية والهيأة العليا المنظمة للإنتخابات ، بخصوص الانتهاكات الموثقة ، وكأن لم يكن هناك ما يستحق التوقف عنده ، ولا يعنيها شيء ما ، من قريب أو بعيد ، وهي من زور ودلس ، فراحت تطالب بمقاعد تعويضية من أجل أن تفرض سيادتها وسيطرتها على المجلس الجديد ..!
إنه عالم العولمة العراقي الجديد، لا يستقيم الأمر له مع وجود منافس ، أو معارض مهما كان صغيرا .. هذه ديموقراطيتنا في ظل الاحتلال والحكومات الطائفية ـ العنصرية ، بمباركة من بعض الكتاب ، بدأت بمحاصصة طائفية وعنصرية وانتهت بديموقراطية التزوير وطمس الحقائق .. فسبحان الله ، ولله في خلقه شؤون ..!
العودة الى الصفحة الرئيسية