في تفسير ازعومة الثوابت

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

ارتبط العناد، والتشبث بالمواقف، والعنجهية الفارغة، في مراحل بدائية في المجتمعات الأبوية المغلقة والمتسلطة التي يبنى فيها القرار على الأحادية، والتفرد بالقرار البعيد كليا عن الواقعية، والدراسة العميقة والفهم الموضوعي للواقع، التي كان من نتائجها المباشرة، وبشكل دائم الخسارة والسير نحو الهاويات، ارتبط كل ذاك بالعقلية الفردية والمائلة دائما نحو الجنوح المفرط بالإصرار على صوابية الموقف والقرار التي لا تقبل الجدال، وتحت ذرائعية التميز النرجسي، ويباس الرأس الأرعن بالرغم من كل التداعيات المأساوية الظاهرة في المكان. و كان ذلك دوما ملازما ونتاجا لتلك الشخصية المستبدة الطاغية التي لا تقيم وزنا واعتبارا للآخر ومهما كان. وفي الوقت الحاضر، أخذ هذا السلوك مفهوما جديدا، وأصبح متداولا بكثرة، وتبريريا لكل حالات الشلل والتقوقع وانعدام الحراك الكلي بكل تفرعاته، وهو ما اصطلح على تسميته لاحقا، بمبدأ الثوابت.
وكثيرا ما يردد الإعلام الرسمي، الآن، هنا وهناك، لازمة الثوابت القومية والوطنية، في معرض تفسيره لحالة العجز عن الخروج من نطاق النمطية البدائية، التي وجد نفسه فيها ولم يبارحها على الإطلاق إلا في الخطب والبيانات، أو مواكبة المتغيرات التي تعصف بالعالم في كل مكان، والتشبث بوضعية التباطؤ، والتمنع عن الاستجابة لاستحقاقات باتت في حكم البديهيات والمنسيات في مجتمعات ليست ببعيدة جدا. وفي الواقع، لن تعد تفي هذه الاستحقاقات، لو جاد بها الأكارم في هذه اللحظة بالذات، بالاحتياجات المتنامية يوميا، أو حتى إذا ما قورنت بما حققته شعوب أخرى سبقناها في زمن الانطلاق بنفس المضمار. و اكتسبت هذه الكلمة معان رمزية ممعنة بالسلبية، على العكس تماما مما كان مقصودا ومتوخى منها، وهي طرحت وتطرح بهذا الشكل لاستثارة الهمم، والنخوة، وإيقاظ الضمائر، وتأجيج المشاعر الوطنية في حالة التعبئة العامة المعلنة هذه الأيام.
وفي الواقع فقد أصبحت لازمة الثوابت تشكل كابوسا يقض مضاجع الوطنيين والديمقراطيين، بشكل جدي وخطير، وينظرون إليها بنوع من الريبة، أينما ورد ذكرها، حتى ولو في معرض الحديث عن ثبات وتثبيت الأسعار. و كلما تطرق لها أي من المتحدثين الرسميين، صار ينظر على أنه تنكر لأي وعد بالتغيير والإصلاح. و صارت تشكل عامل تيئيس وإحباط للغالبية المتطلعة لإحداث أي نوع من التطوير. وارتبطت هذه الثوابت اللغز بشكل عام مع تشدد عام في الداخل، واتجاه حثيث على الصعيد الخارجي لنيل شهادة حسن السلوك من هذا الطرف أو ذاك. وكلما اشتد الخطر والتهديد، وتلكأت و تعثرت السياسات، كلما ازدادت الحاجة للتذكير بالتمسك بالثوابت الوطنية والقومية. وأن أي حديث عن أي ثابت من الثوابت يعني دخولا جديدا في نفق مظلم من الويل والآلام والعذاب والصعاب. كما أصبحت أزعومة الثوابت الثورية الأسطورية سبيلا ديماغوجيا ومنفذا فضفاضا للتهرب من الكثير من التساؤلات، والاستحقاقات، والوفاء بالالتزامات إن على الصعيد المحلي أو على الصعيد الخارجي. وأصبح معنى هذه الثوابت في ذهن الكثيرين هو استمرار سياسات البطش و الإقصاء والتعسف والإلغاء، والفساد والاستبداد، والقمع اللامحدود، وشخصنة الأوطان، ودوام تطبيق قوانين الطوارئ، والأحكام العرفية التي يتعرض لها المواطن في كل مكان تصل إليه سطوة، وجبروت أصحاب الثوابت.
ولقد صدّع الإعلام الثابت رؤوس مواطنيه الثابتين على ظروف القهر والظلم والشقاء، بهذه اللوازم بدون أن يكلف أحد ما نفسه عناء شرحها وتفسيرها للمواطنين وتبيان ماهية هذه الثوابت وجوهرها وتحليل أبعادها ومضموناتها الفعلية، وماذا تعني لكل من المواطن والمسئول على حد سواء، وماذا جلبت في النهاية من نفع للبلاد. وارتبط معناها في أذهان الكثيرين بأنها العدو اللدود للتغيير والإصلاح، وصارت عصاة مسلطة على رؤوس العباد يمارسه أي مسئول حين يريد التلويح بأي نوع من العقوبات الجماعية والتهديد، والانتقام.
ولو تم تحري المعاني الحقيقية التي خلفها الترويج الممجوج، والفج لهذا المفهوم الغامض على أرض الواقع لجاء الرد صاعقا ومعاكسا بكل المقاييس، وبأن أحد تفسيراته المؤلمة، ومعانيه الواقعية هي الديكتاتورية والاستبداد المنفلت واللامحدود، واستمرار سياسات التعنت والانتحار، واستشراء الفساد، ونشر البؤس والإفقار، وإطلاق يد الشبيحة وقطاع الطرق، والمافيات، وتفعيل كل الممارسات القمعية والأمنية، والاستفشار في وجه أية مطالبات شعبية لرفع نير الطغيان عن كاهل ورقاب الناس، والتنكر لأبسط الحقوق والواجبات، وتوليف، و"تظبيط" كل تلك الظروف التي تضمن إنتاج حالة الخوف والرهاب العام، ومحاولة الإبقاء على الأوضاع الراهنة، بشكلها العجيز الجامد، أطول فترة ممكنة، وإضعاف مكامن القوة، وأسباب تقدم ونمو المجتمعات، ونزع قدرات التحرك والمبادرة المجتمعية، وتثبيط الهمم، وشل الحراك الاجتماعي والسياسي، ووضع المجتمع برمته في قبضة أفراد لا يقيمون أي وزن واعتبار للقيم الحضارية والمبادئ والأخلاق التي تسهم في دفع المجتمعات قدما نحو الأمام، وإفراغ المجتمعات من أية معان إنسانية، ومنع أية محاولة لخلق فهم أو وعي علمي وموضوعي لهمومها ومشكلاتها الحقيقية.
ولو كانت هذه الثوابت التي تتغنى بها وسائل الإعلام صباح مساء، قد أنتجت حالة عامة إيجابية، وتجسدت، يوما ما، وبأي شكل كان، على الأرض رفاها اقتصاديا مثلا، أو تطويرا سياسيا، أو تفاعلا اجتماعيا خلاقا ومثمرا، ولو كانت تشير إلى ممارسات حضارية، وأنجزت نظما حديثة تراعي الحريات الفردية وتحترم حقوق الإنسان، وأقامت دولة النظام والقانون، تعنى وتلتزم بتداول سلمي للسلطات، ووجود انتخابات نزيهة ومباشرة، وبرلمان مستقل، وتكريس حرية التعبير والصحافة الحرة، لكان الموقف العام منها، ولا شك مختلف عما هو عليه الآن، ولأصبحت تفسيراتها الفورية في الذهنية العامة موضع تقدير واحترام بأكثر بكثير مما هو عليه الآن، ولدافع الناس عنها بالنواجذ والأنياب، وزال حتما ذاك الشعور السلبي منها المقترن بالتوجس، والريبة، والعُصاب.
ولكن لطالما ارتبطت بكل تلك المعايير السوداء، والممارسات المقززة النكراء، فإنها لن تحظى، في الواقع، سوى بالنفور، والاستهجان، والاستنكار.
 

 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com