اكتسبت الحركات الإسلامية الفلسطينية، ممثلة بحماس، والجهاد الإسلامي، شرعية نضالية في الداخل الفلسطيني نتيجة قيامها، وتبنيها لمعظم العمليات المسلحة الأخيرة، التي طاولت قوات الاحتلال الإسرائيلي، ووجهت لها بعض الضربات المؤلمة، وفي العمق، متخطية كل تلك الترسانة العسكرية، والطوق الأمني، الذي حاولت قوات الاحتلال إقامته حول مستوطنيها وجنودها. كما اكتسبت سمعة خارجية طيبة لدى قوى التحرر والوطنية، بقيادتها، إلى حد ما، دفة الصراع والكفاح ضد الاحتلال، وسط توقعات بترجيح اكتساح حماس لهذه الانتخابات، بعد أن تحفظت منظمة الجهاد الإسلامي وامتنعت عن المشاركة فيها. وفي الطريق، من الشرعية الثورية، والنضالية، إلى الشرعية الوطنية، هناك مخاض عسير، ودرب صعب، وطويل تخوض غماره هذه الحركة اليوم عبر المشاركة الفعالة، والقوية بالانتخابات، التي تجري اليوم في عموم المناطق الفلسطينية. وإذا كان من الصعوبة الاستحواذ على تلك الشرعية والإعجاب النضالي الجهادي المقاوم إلا بتضحيات جليلة، ونضال مرير، فإنه، ربما من الأصعب الولوج في صلب العملية السياسية، وتحقيق شرعية من نوع آخر، تتطلب تقديم أنموذج وطني مقبول يكون بديلا لكل سنوات المعاناة والصعوبات تحت ربقة الاحتلال المقيت.
لا شك، هناك تحالفات، وحسابات، وتجاذبات كثيرة تتقاذف هذه الانتخابات، وهناك تيارات متجذرة في ساحة العمل الوطني الفلسطيني، واعتبارات محلية ودولية تتحكم بها. ولا شك، أيضا، أن هذا التنافس المحموم كما رأيناه وتابعناه هو حق شرعي لكل فصيل، وتيار سياسي وطني، ومهما كان لونه، أو طيفه العقائدي. ولكن العبرة والتعويل، في النهاية فيما يقدمه هذا الطرف، أو ذاك، من بدائل، وخطط، وتصورات عملية، ونجاحات سياسية على الأرض، تنعكس إيجابا بشكل عام على الإنسان الفلسطيني فيما تبقى له من تلك "الرقعة" الصغيرة التي ابتلعت معظمها آلة الحرب الجهنمية والعدوانية العمياء. فالوطنية ليست حكرا لأي فصيل ومهما كان، وتتحدد وطنية الجميع بمقدار ما يقدمونه في النهاية من خير للصالح العام. إلا أن هذا التنافس المحموم، ومن خلال تلك العملية الديمقراطية، التي يجب أن تتأصل في كل المجتمعات وتنتقل عدواها الطيبة المباركة لدول الجوار، وطالما ظل في حدوده القانونية والسلمية، لهو دليل صحة وعافية، وحالة متقدمة جدا من التطور السياسي، والأروع والأجمل من كل ذاك هو في ائتلاف كل هذه الفصائل والتيارات والقوى في اتجاه واحد نحو تعزيز لحمة الوطن الواحد.
ولقد أعربت بعض الدول العظمى، وبتدخل سافر ومكروه، بأنها لن تتعامل مع السلطة الفلسطينية في حال فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية، نظرا لما تكنه من عداء مسبق لكل ما هو وطني وتحرري وإنساني، وبالتوازي مع هذا، وبإشارة لافتة أخرى، تسربت أنباء، وتصريحات، أيضا، عن أن حماس ستعمد لفرض الحجاب في المناطق الفلسطينية في حال فوزها في الانتخابات، وبدا أن هذا هو همها الوحيد من كل هذا السجال والغمار والنضال. وفي حال كان هذا الكلام صحيحا، فإنه يختزل مجمل نضالها إلى هذا الخيار الثانوي وطنيا حاليا، لكنه متأصل أصلا في المجتمع الفلسطيني وليس هناك من حاجة ماسة للنضال من أجله أو القيام بحملة سياسية لتحقيقه. ولو سعت حماس، أو أي حركة أصولية أخرى إلى التفكير في التمسك بأهداب الظواهر والقشور، وإعادة إنتاج دولة على النمط الطالباني المتزمت المغلق، وفرض رؤيتها الدينية بشكلها المتشدد ظاهريا والمنخور الخاوي داخليا، فإنما سيكون هذا نوعا من الاحتلال العقائدي قد يماهي، لا بل يبز الاحتلال العسكري في الكثير من الجوانب من حيث الممارسات، والتطويع الإجباري، ومصادرة الرأي، وحرية الناس. وهذا يجب ألا يكون من أولويات حماس، في هذه الفترة، على الأقل، فهناك أمور، الآن، أهم بكثير على الأجندة، وجدول الأعمال من قضية الحجاب. وذلك أكبر خطأ قد يرتكبه أي فصيل محافظ لا يرى في الأوطان، رغم تنوعها وتعددها وثرائها، إلا مجرد لحية وحجاب وجلباب، ومسرحا لتطبيق نصوص صماء، لا واحة وبوتقة تصهر كل الأطياف، وتمارس فيها التعددية، والتفاعل الخلاق والحريات العامة.
لقد أثبتت الوقائع والتاريخ، القريب والبعيد، أن فرض العقائد بالقوة والإكراه، قد يكون له مفعول عكسي تماما يولد النفور والإحباط. والمطلوب في هذه المرحلة خصوصا، التفكير جديا ومليا أولا، في تعزيز الوحدة الوطنية، وبناء دولة وفق منظورات عصرية وحديثة، لا وفق شعارات متآكلة وشكلية تؤجج الصراعات، وتولد الضغائن والأحقاد، وامتلاك وتعزيز القوة، والمنعة الذاتية، وتلبية احتياجات الناس الأساسية من تعليم وغذاء ودواء، والتخلص من آثار وتبعات ومفاعيل الاحتلال. ولا شك، عند ذاك، سيكون الولاء مطلقا، لأي حزب، أو تيار سياسي، أو ديني يحقق طموحات وتوجهات الناس ويقلص الفوارق الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية بين الناس، ولن ينظر الناس عندها، للون هذا الطيف السياسي، أو ذاك، حتى لو كان حالك السواد.
أما إذا كانت الغاية من كل تلك التضحيات هي تطبيق تلك التصورات الماضوية الضيقة، والشكلية المحدودة في الرؤية لإدارة الوطن الجديد، وتسخير كل طاقات الوطن واستنزاف العمل، والجهد الوطني برمته في سبيل ذلك، فإنه، وبلا شك، سيكون احتلالا من نوع آخر وهو الاحتلال العقائدي. وسيكون الناس عندها قد تخلصوا من الاحتلال العسكري، ليدخلوا في معمعة وحقبة جديدة من الاحتلال العقائدي الذي هو ربما أضر وأدهى من نظيره العسكري، وسيكون من نتائجه، ولا شك، مرحلة أخرى، وطويلة، من الصراع المرير.