|
لتشكيل الحكومة العراقية الدائمة التي طال انتظارها، علينا التحلي بالصبر الجميل فترة أخرى قد تطول أشهر حتى نراها على أرض الواقع، وربما ستكون مكبلة بأغلال ما سمي بالتوافق أو الاستحقاق الانتخابي أو المشاركة، سمي تلك الأغلال ما شئت، لأن النتيجة ستكون واحدة والعياذ بالله. لم يقرأ أو يسمع أحد عن تلك المصطلحات في القواميس السياسية المعروفة، ولكن بعد قراءة ما بين السطور نستطيع أن نفهم أنها تعني ما تعني، وإن وراء كل اصطلاح معاني غير التي يفهم منها على أساس مدلول الكلمة القاموسي المعروف. تعرف حقيقي للمصطلحات: الاستحقاق الانتخابي يعني أن كل قائمة من القوائم التي تشكل البرلمان تدفع بمرشحين عنها يتناسب عددهم مع حجم القائمة، وإن الحقائب الوزارية التي تستأثر بها أية قائمة من حيث الأهمية لا تخرج عن هذا المضمون، وهو الحجم الحقيقي للقائمة، آخذين بنظر الاعتبار أهمية الوزارة في هذه المرحلة التي يمر بها البلد. أما ما يعنيه مصطلح حكومة المشاركة، فهو واضح جدا، أي إن الجهة التي تشكل الحكومة هي التي تختار الحقائب الوزارية التي تمنحها للأطراف الأخرى في البرلمان بما يضمن انسجام الحكومة ويسهل اتخاذ القرارات، وهذا حق مطلق في بعض الأعراف السياسية لبعض البلدان العريقة بأنظمتها الديمقراطية، إذ ليس للجهات التي تقف في الصف الثاني أو الثالث أن تطالب بشيء مهما كان، ولكن في العرف السياسي العراقي هو أن تكون المشاركة ضرورية وهو ما تمليه الظروف الموضوعية التي يمر بها البلد، حتى لو استمر هذا العرف فلا ضير منه على الإطلاق مادام الذي يشكل الحكومة يأخذ بنظر الاعتبار باقي الأطراف ويمنحها حقائب تتناسب مع حجمها الحقيقي. الخوف من هذين الأسلوبين هو أن الجهة التي تشكل الحكومة توظف هذه العملية بما يساعدها على تحقيق أهدافها لا أهداف البلد من خلال برنامج حقيقي وليس موضوعا إنشائيا لمجرد ذر الرماد في العيون. لكن ما يعنيه مصطلح حكومة الوحدة الوطنية غير ما توحي به الكلمات، وهو نفسه الذي اصطلح عليه أيضا بالحكومة التوافقية، قد يحتار المرء أمام هذه التسمية، فالتدقيق في نتائج الانتخابات نرى أنها أفرزت كتل برلمانية تمثل جميع مكونات الشعب العراقي وبعدد من البرلمانيين بما يتناسب مع حجم أي مكون من مكونات الشعب العراقي، فحكومة الاستحقاق الانتخابي يجب أن تعني بالضرورة أنها حكومة توافق وأنها أيضا حكومة وحدة وطنية، وإذا بنا نرى اعتراضات جدية من بعض الجماعات وصلت إلى حد التهديد باللجوء للسلاح وإشاعة الفوضى إن طبق هذا المبدأ بتشكيل الحكومة! وكما أسلفنا، من القراءة فيما بين السطور، وجدنا أن التوافق يقصد به عملقة الصغير وتقزيم الكبير، لكن بذات الوقت يلعنون المحاصة الطائفية لتبرير عملية التشويه هذه! دعاة التوافق: علينا أن نميز بين نوعين من دعاة التوافق المطلوب، النوع الأول يعتبره أحد أدوات المؤامرة ويعيد توظيفه بما يتفق والأهداف النهائية لهذه الفئة المتمثل بالانقضاض على السلطة من جديد، أما النوع الثاني من دعاة التوافق، بلا أدنى شك من المخلصين للعراق ولمستقبل العملية السياسية ولهم مبرراتهم الموضوعية لهذا النوع من التوافق على حساب الاستحقاق الانتخابي، ولكن كيف يمكن فهم عملية التوافق وفق هذه المتناقضات والأهداف المتباينة؟ المنافقين: النوع الأول من دعاة التوافق بتقزيم الكبار وعملقة الصغار، وكما أسلفنا يعتبرون هذا المفهوم أحد أدوات المؤامرة التي يعملون عليها بكل الوسائل، ربما لا ينسى أحد منا أنهم كانوا منذ اليوم الأول لبدء العملية السياسية يطالبون بحصص أكبر من الحكومة لمكونهم الذي يدعون تمثيله! وإذا لم تكون الحكومة كما يريدون فإنها حكومة محاصصة طائفية وعرقية وفيها من المثالب ما لا حصر له! أي هو النفاق السياسي بكل تجلياته ومعانيه، لكن الأدهى والأمر من ذلك! أنهم يطالبون بذات الوقت بتولي ملفات عراقية خطيرة كالملف الأمني! في حين هم من أساء للأمن أصلا ومازال المسيء الأكبر! وإن مناطقهم التي يمثلوها هي البؤرة التي ينطلق منها الإرهاب وكل ما يسيء للأمن في العراق! وإذا لم يحصلوا على ما يريدون فإن العراق سوف يتفجر في العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والاغتيالات والخطف وطلب الفدية وقتل العلماء والأكاديميين وترويع الناس وتهديم ما تبقى من البنى التحتية في البلد وتفجير أنابيب النفط وشل الاقتصاد العراقي واستعداء كل كلاب الأرض على العراق، كل هذا وأكثر إذا لم يستجيب الطرف الذي يشكل الحكومة لمطالبهم! بكلمة أخرى، أن التوافق كما تفهمه هذه الفئة هو الاستجابة والخضوع للابتزاز من أجل الوصول إلى معادلة مضحكة طالما نادت بها هذه الجماعات المتعطشة للسلطة منذ الأيام الأولى من سقوط النظام البعثي المقبور، حيث كانت هذه الجهات تنادي بمبدأ أن يكون صوت أبناء مناطقهم بثلاثة أصوات من أبناء المناطق الأخرى! لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذا الخطاب يسيء لهم قبل غيرهم، فتغير قليلا ليكون التوافق مرة أو الوحدة الوطنية مرة أخرى، وبقيت عناصر عملهم السياسي الإرهابي كما هي، وبقي السلاح هو لغة الحوار الحقيقية من أجل تطبيق ديمقراطيتهم التي تهدف في نهاية المطاف إلى إعادة البعث من جديد! أي بمعنى حتى لو قبل الآخرون بتقزيم أنفسهم تحت مسمى التوافق الوطني، فإن الأمر سوف لن ينتهي، حيث هناك الملف الأمني الذي يجب أن يمسكوا به كاملا، ولا يجدون بديل عنه، فهو الوسيلة الأكيدة التي توصلهم للسلطة الكاملة، وكأني بهم يقولون للآخرين أن خذوا أنتم ديمقراطيتكم وتمتعوا بها لبضعة أيام حتى رحيل القوات المتعددة الجنسية، ويوم يخرج الأمريكان من العراق، وهذا ما سيحدث إن عاجلا أم آجلا، آن ذاك، سيكون لنا حديث آخر، فالبيان الأول للثورة قد انتهت صياغته من زمن بعيد من أجل استكمال مهمات الرسالة الخالدة التي لم يستطع إكمالها صدام بسبب خيانة العراقيين لهذه الرسالة البعثية الخالدة، وذلك بتحالفهم مع المحتل الأمريكي، ورفضهم الدفاع عن النظام الذي قتلهم وملئ الأرض بمقابرهم الجماعية، وحول بيوتهم إلى خرائب وشوارعهم إلى مستنقعات وتركهم للمرض والجوع الذي يقطع الأمعاء! تخيَل عزيزي القارئ أن كل هذه المعاني يحملها مفهوم حكومة التوافق الوطني! والذي يسمى أحيانا بالوحدة الوطنية! في الواقع هناك ما هو أكثر من ذلك لم نستطع أن نقرأه من بين السطور! واقعية التوافق: أما النوع الثاني من دعاة حكومة التوافق أو الوحدة الوطنية ربما أكثر واقعية من الطرفين، أي الطرف الذي ينادي بحكومة استحقاق انتخابي أو المشاركة وكذا النوع الأول من دعاة التوافق، أي النوع المنافق الذي يهدف إلى استيلاء البعث على السلطة من جديد، هذه الفئة من العراقيين ترى أن هناك أزمة ثقة بين مكونات الشعب العراقي ينبغي التوقف عندها وإيجاد الحلول المرضية لها والخروج بصيغة توافقية تكون أساس للوحدة الوطنية تضمن القضاء على الإرهاب ونزع السلاح الكامل لكل الجهات التي تحمل السلاح، وتهدد الأمن الداخلي وتشل الحياة بشكل مطلق. هذا النوع من دعاة التوافق، متخوفون فعلا من سطوة الإسلام السياسي على السلطة وفرض مشاريعه التي من شأنها تقسيم العراق في نهاية المطاف، وهذا التخوف مشروع لأن أي من أحزاب الإسلام السياسي لم يتخلى عن أهدافه النهائية المثبتة في نظمها الداخلية، ولم تتخلى هذه الأحزاب عن مليشياتها، بل مازالت تطلق لهم العنان في مناطق واسعة من العراق، ويعتبرها البعض أصبحت مناطق نفوذ لإيران، ومازالوا يقاتلون من أجل الحصول على أغلبية الثلثين في البرلمان لضمان تغيره من أجل ربط الدين بالدولة بالكامل، وبالتالي فرض مشروعها السياسي على العراق كأمر واقع، في حين هي ما وصلت إلى هذه الدرجة من الكاريزمية لولا التهديد الإرهابي والموقف من البعث وأجهزته الأمنية المنحلة التي تعتبر المحرك الأساس للإرهاب في العراق، وهذه حالة يفترض أنها مؤقتة ويجب أن تزول مع الوقت، ولكن ربط الدين بالدولة لا يمكن أن يزول بسهولة، بل سيكون هو المستحيل بعينه فيما لو استتب الأمر بالكامل للإسلام السياسي. لذا ينبغي أن يكون التيار الإسلامي أكثر واقعية وأن لا يذهب بعيدا لتحقيق برامجه المخيفة للكثير من العراقيين، لكي لا يصل الأمر أن تصبح مواقف فلول البعث الانتهازية من العملية السياسية مواقف موضوعية ومبررة في أكثر من معنى، أي إن إصرار الإسلام السياسي على تنفيذ برامجه يجعل من برامج البعث للعودة للسلطة من جديد موضوعية وتستقطب التعاطف من قبل الكثيرين، خصوصا العلمانيين منهم بالرغم من أنهم مازالوا مذعورين من مجرد سماعهم لكلمة البعث. الحلول التي تطمئن لها القلوب: هذه الجهات المخلصة للبلد والعملية السياسية بلا شك مشخصة بشكل واضح من قبل الجميع، وذلك بالرغم من أن الأطراف التي تطالب بحكومة التوافق قد اصطفت بشكل يخلط الأوراق، وبالرغم من أن هناك عدم وضوح بالرؤيا لدى بعض هذه الأطراف، لكن يبقى التشخيص ممكنا جدا من قبل الجهة التي تشكل الحكومة، وإن أمامها الكثير الذي يجب أن تنتبه له، وهو تحديدا تلك الأطياف السياسية المخلصة للبلد والعملية السياسية الجارية والذين ساهموا بقوة بكل النجاحات التي حققها العراق، هذه الأطياف السياسية منتشرة في جميع المكونات العراقية الطائفية أو العرقية، ومنتشرة أيضا بين أعضاء البرلمان من القوائم الأخرى، ولديها عناصر لا يمكن أن تفرط بالعراق وتسمح للسرطان البعثي من الاستفحال مجددا بأي حال من الأحوال، هذه العناصر كثيرة جدا وتستطيع تشكيل ألف وزارة وليس بضعة حقائب. إن أخذ هذه العناصر بنظر الاعتبار يكن أن يطمئن نفوس الكثيرين من المتخوفين في ظل أزمة الثقة المستحكمة في العراق، ويجعل من الحكومة الجديدة شوكة بعيون العابثين بمستقبل العراق.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |