حكومة توافق وطني أم مرجعية مؤسساتية؟

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

مدخل:

في النظم الشمولية عموما لا توجد معضلة باتخاذ القرارات على مستوى الحكومة، لأن الدكتاتور أو سلطة القرار العليا هي فقط من يأخذ القرار والآخرين ينفذون ما تراه صحيحا، لكن في الأنظمة الديمقراطية تكون صناعة القرار صعبة بعض الشيء لوجود آراء مختلفة حول المسألة، وذلك في حال انسجام أعضاء التشكيلة الوزارية، ولكن لو كانت هذه التشكيلة غير منسجمة ولها آراء متضاربة من مجمل القضايا، فإن أمر اتخاذ القرار سيكون صعبا للغاية، وأحيانا أخرى مستحيلا. من هنا يجب إن نبحث في معنى الحكومة التوافقية أو حكومة الوحدة الوطنية وليس على أساس محاصصة وفق الاستحقاق الانتخابي وحسب، رغم إن هذا الاستحقاق يجب إن يبقى هو المعيار الذي تمنح على أساس منه الحقائب الوزارية للكتل الفائزة في الانتخابات. لأن التوافق لا يجب إن يعني القفز على الاستحقاق الانتخابي، فهو عملية سطو، أحيانا مسلح، على أحقية الأغلبية التي أدلت بأصواتها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفي أحسن الأحوال استخفاف بالمعايير الديمقراطية، كما ولا يعني التوافق، من ناحية أخرى، تشكيل ما يسمى ""بالمرجعية المؤسساتية"" كبديل لدولة ولاية الفقيه بحجة الاستحقاق الانتخابي، حيث هذا المسعى هو الذي يعد الأخطر في مسيرة العراق السياسية نحو نظام ديمقراطي، وهذا ما سنأتي عليه بمزيد من التفصيل في المقال لكن بعد تبيان معنى حكومة التوافق الوطني.

 

الانسجام أساسي:

من هنا تأتي أهمية أن تكون التشكيلة الوزارية منسجمة ولا توجد إمكانية لإعاقة القرار السياسي ولا الدخول في صراعات تشل حركة الحكومة وتجعل منها أسيرة سلاسل بل شبكة من التوافقات على حساب مصلحة البلد، فالعراق في هذه المرحلة بحاجة إلى قرارات سريعة وليس بحاجة إلى عمليات بحث دائمة ومتعبة عن وسيلة لاتخاذ القرار، وبالتالي يصار إلى حالة من التشنج تؤدي لاتخاذ قرار غير سليم لإرضاء حالة التوافق، حيث وجود حالة من هذا القبيل تعطي فرصة للمشاكسين سياسيا وذوي الإغراض المريضة إلى شل حركة الحكومة إلى حد الجمود فالموت، ولكي يكون عناصر الحكومة منسجمين كطاقم عمل أعلى في البلاد، يتوجب على رئيس الوزراء إن يختار طاقمه بنفسه لا إن تملى عليه الأسماء من الكتل البرلمانية على أساس الاستحقاق الانتخابي، فوجود وزير مشاكس واحد في وزارة توافق وطني سوف يعيق اتخاذ القرارات ويستطيع إجهاض برنامج الوزارة في أكثر من معنى.

 

البرنامج أولا:

وحين نتحدث عن حكومة وحدة وطنية منسجمة، فإن هذا يعني بالضرورة أن جميع أعضائها متفقين على برنامج واحد يحقق طموحات المواطن العراقي في كل مكان، ويحقق حالة من الطمأنينة لدى جميع مكونات الأمة العراقية، وهكذا نستطيع الجزم أن مفهوم التوافق الوطني يجب إن يكرس أولا وأخيرا في برنامج الحكومة ومن ثم يتم البحث عمن ينفذ هذا البرنامج بحماس، ولا يجب أن يأخذ وزيرا حقيبة في الوزارة وهو غير مقتنع في برنامجها.

لكن بكل أسف ما نراه في المشهد العراقي هو البحث عن حالة من التوافق في الاستحواذ على حصص في الوزارة وليس الانسجام والقناعة في البرنامج، لأن البرنامج لم يسمع به أحد لحد الآن! ولم نسمع عن جهة قد كلفت نفسها بصياغة برنامج توافقي للحكومة على أن يتم تعديله بين الأطراف المختلفة من خلال المفاوضات بما يحقق حالة التوافق المطلوبة، لكن في حال العمل على هذا البرنامج وبعد أن يصبح حقيقة، آن ذاك، يحق للمتحاورين البحث بين الكتل البرلمانية عن الأشخاص من ذوي الكفاءة والمتحمسين بذات الوقت لتنفيذ هذا البرنامج.

 

صياغة البرنامج للحكومة:

حقا أن الكتل التي دخلت الانتخابات كانت لها برامج، وما لاحظناه في تلك البرامج أنها كانت متفقة بشكل عام على الكثير من المواضيع التي يجب البدء منها في معالجة الوضع المتردي في العراق، وهي والتي يجب أن تشكل في النهاية قواسم مشتركة بين الكتل البرلمانية في وضع برنامج الحكومة التوافقية. لكن هناك أيضا قضايا أساسية ومصيرية للعراقيين جميعا مختلف عليها، وقد قرأنا الكثير من الرؤى في تلك البرامج الانتخابية تحمل صيغا توفيقية حول هذه القضايا الخلافية أيضا، من هذه المسائل المختلف عليها تشكيلة الجيش والقوات المسلحة الجديدة والموقف من اجتثاث البعث والموقف من الإرهاب وقانون مكافحة الإرهاب، وذلك لوجود اختلافات أصلا حول تعريف الإرهاب، هذا فضلا عن الخلاف حول بعض بنود الدستور، ولكن يبقى هذا الأمر من مهمات البرلمان وليس حكومة التوافق الوطني.

كما أسلفنا أن المسائل المتعلقة بإعادة بناء العراق وتوزيع الثروة بشكل عادل مع اخذ المناطق الأكثر تضررا بنظر الاعتبار، وتطوير موارد الدولة بتطوير حقول نفط جديدة وإدخال استثمارات في الصناعات المختلفة، وإعادة بناء البنية التحتية المهدمة والاعتناء بالفرد العراقي والأسرة وتوفير الحياة الكريمة للجميع من خلال برامج التكافل الاجتماعي المتطورة وتنفيذها بشكل مبدع، والعمل بشكل فاعل على عودة المهاجرين من خلال برامج حقيقية، والكثير من القضايا الأخرى متفق عليها بالكامل تقريبا. لكن تبقى المسائل الخلافية هي التحدي الحقيقي والعمل على وجود صيغ توافقية حولها هو ما سيضمن حالة التوافق الوطني الحقيقية، لكن حقا وكما أسلفنا إن العديد من هذه المسائل ليس من السهل الاتفاق عليها بشكل حاسم لوجود مساحة واسعة بين الرؤى لأطراف الخلاف حول هذه المسائل، وهذا ما يجعل من المباحثات بين الأطراف المختلفة صعبة جدا، وغالبا ما ستنتهي بوجود خلافات محددة، ولكن بالتأكيد إن مساحة الخلاف سوف تضيق إلى الحدود التي يمكن تجاوزها في مراحل لاحقة مستقبلا.

إن ما تقدم يعني أن البرنامج يجب أن يحقق أكبر قدر من التوافق وليس التوافق المطلق لأنه أمر مستحيل في هذه المرحلة.

على سبيل المثال وليس الحصر، بالرغم من أن مسألة الجيش قد حسمت بشكل لا رجعة فيه بتشكيل الجيش الحالي والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى، لكن بقيت جهات متعددة في البرلمان تحمل رؤى لا تتفق مع واقع التشكيلة النهائية الحالية لهذه الأجهزة، ويذهب البعض من هذه الأطراف إلى حد القول أن هذه الأجهزة يجب أن تحل بالكامل وأن يعاد تشكيل الجيش والقوات المسلحة القديمة، وأنا لا أعتقد أن مثل هذه المطالب عملية هذا فضلا عن أنها غير مقبولة من الأطياف العراقية الأوسع، فأي حديث عن هذه المستحيلات يعتبر نوعا من تخريب حالة التوافق الحقيقية والممكنة في المرحلة الحالية. من هذه القضايا أيضا مسألة اجتثاث البعث، فهي الأخرى حالة يستحيل التوافق حولها ولا يمكن بلوغها أبدا، ما لم يتم البحث في التفاصيل والمفردات لهذا الموضوع والتي غالبا ما اتفق السياسيون حولها، حيث أن الجميع يعترف بأن البعث أجبر العراقيين على الانتماء لهذا الحزب وأن الغالبية العظمى منهم وخصوصا في المراتب الدنيا من هذا التنظيم لا شأن لهم بالجرائم التي ارتكبها البعث ونظامه، وأن للقضاء دورا في هذا الملف يجب أن يفعل في المرحلة القادمة. وهناك أيضا الكثير الذي يتفق عليه السياسيون في هذا الشأن، وهو ما نراه يشكل قواسم مشتركة لدى الجميع حول الكثير مفردات هذه القضية، لتكن هذه المفردات هي الأساس لكتابة برنامج الحكومة الجديدة.

 

دور الاستحقاق الانتخابي:

وعند الوصول إلى حالة التوافق على برنامج مشترك يضمن الوحدة الوطنية وحالة التوافق الممكنة حاليا، آن ذاك فقط يجري توزيع المناصب على المتنافسين وفق درجة الحماس بتنفيذ البرنامج وليس على أساس المحاصة، فالوزير الذي لا يعترف بوجود إرهاب عليه إن لا يمسك منصبا امنيا في العراق، والوزير الذي لا يجد ببرنامج الوزارة للارتقاء بالقطاع النفطي برنامجا مناسبا للعراق عليه إن لا يمنح شرف تولي الملف النفطي للبلد، وهكذا باقي المناصب الوزارية في وزارة التوافق التي تشكل على أساس الاستحقاق الانتخابي الذي يجب أن يحترم.

كما ويجب أن يكون برنامج حكومة الوحدة الوطنية ممثلا للجميع ولا يعكس البرامج الحزبية الضيقة إن تأخذ دورها في إدارة شؤون الدولة لا يعطي فرصة لها أن تكون فاعلة من خلال آليات عمل البرلمان المعروفة، وهذا من شأنه إن يبدد المخاوف المتعلقة بالعمل على أساس من تلك البرامج وليس على أساس ما اتفق عليه أبناء الوطن الواحد.

 

المشروع الأخطر بتاريخ العراق السياسي:

لكن مع الأسف الشديد نجد أن أكبر كتلة في البرلمان تسعى لتشكيل دولة ""المرجعية المؤسساتية"" والتي تعتبر البديل المتطور لمفهوم ولاية الفقيه، فقد صرح أحد أعضاء الائتلاف البارزين يوم أمس ""أن الائتلاف الموحد عقد اليوم الاثنين اجتماعاً لإقرار النظام الداخلي لكتلة الائتلاف " كمرجعية سياسية تستند على قواعد مؤسساتية""، فإن هذا التصريح يعد من أخطر التصريحات على الساحة السياسية العراقية منذ أن بدأت ولحد الآن، وهو الذي يشكل الخطر الحقيقي على المستقبل السياسي للعراق، وهذا هو السبب الحقيقي وراء عدم كتابة مسودة لبرنامج الحكومة التوافقية وتجاهل آليات عمل الديمقراطيات المعروفة عالميا. أما السبب وراء الإعلان الصريح عن هذا الأسلوب بالعمل، على ما أعتقد، هو كسر الحواجز النفسية أمام المشروع الجديد للإسلام السياسي العراقي، لأن يمكنهم العمل به سرا وليس بالضرورة الإعلان عنه كما كان عليه واقع الحال بإدارة الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور الجعفري، فقد كان هذا المجلس موجود عرفا ويعمل بجد ومثابرة وهو الذي كان السبب الأساسي للأداء الغير مرضي لحكومة الجعفري.   

كما وقد رشح أيضا عن الاجتماعات المغلقة لكتلة الائتلاف العراقي الموحد أن الكتلة قد اتخذت فعلا قرارا بالصيغة التالية وهو ""أنه يتعين على رئيس الوزراء المنتخب أن يلتزم شروط الائتلاف وهي أن يوقع استقالته منذ الآن لإعلانها في حال فشله""، وبالرغم من أن الائتلاف قد قرر أيضا ""أنه يترتب على رئيس الوزراء أن يكون مقبولا من القوائم الأخرى وقادرا على الحوار والتشاور معها، وان يعد خطة شاملة لتحسين الأمن والخدمات، وان يتمسك ببرنامج الائتلاف""، لكن أدائه سوف يبقى رهن بموافقة تلك المرجعية المؤسساتية التي استحدثها أخيرا الائتلاف العراقي الموحد والمتمثلة بلجنة السبعة وليس لمراقبة البرلمان العراقي المنتخب، والذي يجب أن يكون المسؤول الأول والأخير عن أداء الحكومة ومراقبتها، إي إنه سلطة موازية لسلطة البرلمان وبشكل معلن.

قد لا يخفى على الكثير من المطلعين على ملفات الإسلام السياسي العراقية أنها قد استكملت إلى حد بعيد مفهوم ""المرجعية المؤسساتية"" كبديل لمفهوم ""ولاية الفقيه"" وهو ما يعتقدونه مناسب للعراق، وهذا المجلس سوف يطيح برئيس الوزراء في أي وقت إذا لم ينفذ البرامج الحزبية لكيانات الائتلاف والتي لم يعلن عنها لكن فضحتها أدبيات الباحثين في هذا المفهوم الذي يبدو أنه أصبح مقبولا من قبل معظم مكونات الائتلاف، لأن مفهوم "" المرجعية المؤسساتية"" كونه تطور جديد في مرجعيات الإسلام السياسي وهيكل الدولة الإسلامية ولا يثير حساسية الآخرين كما يثيره مفهوم ""ولاية الفقيه"" لكثر المتصدين له وكثر والانتقادات له ولإيران الدولة الوحيدة التي تعمل وفق هذا النظام.

وهكذا أريد لهذا المجلس، مجلس السبعة، أو ""المرجعية المؤسساتية""، أن يأخذ الدور التي يجب أن يضطلع به البرلمان العراقي المنتخب، وفي أحسن الأحوال سوف يكون سلطة موازية للبرلمان، وفي كثير من الأحيان أعلى من سلطة البرلمان، وهذا أهم وأخطر وسيلة للتجاوز على معنى الديمقراطية ويشل عمل مؤسساتها بالكامل، وبذات الوقت يقرب الإسلام السياسي بخطوة واسعة جدا من الوصول إلى هدفه النهائي المتمثل بالسيطرة المطلقة على الدولة. وهذا ما سنخصه بدراسة كاملة في المستقبل القريب.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com